فى تحول دبلوماسى مذهل، أبدى المرشد الأعلى الإيرانى آية الله على خامنئى استعداده للتفاوض على اتفاق نووى جديد مع الولايات المتحدة فى عهد الرئيس دونالد ترامب. بعد سنوات من الخطاب المتحدى وتجنب أى مفاوضات مع إدارة ترامب، يُمثل هذا التحول الاستراتيجى لخامنئى تغييرًا جوهريًا فى نهج السياسة الخارجية الإيرانية، مدفوعًا بضغوط العقوبات والاضطرابات الاقتصادية وتهديد الحرب الوشيك.
عندما سعى ترامب لأول مرة إلى التواصل مع إيران عام ٢٠١٩، بإرساله رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى إلى طهران كوسيط، رفض خامنئى بشدة فكرة التفاوض مع "ذلك الرجل"، فى إشارة إلى ترامب. موقفه، الغارق فى التحدي، يعكس سياسة أوسع نطاقًا لتجنب التعامل المباشر مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، مع تدهور الوضع الاقتصادى الإيرانى تحت وطأة العقوبات الأمريكية المتواصلة، بدأت حسابات خامنئى تتغير. العقوبات والفوضى الاقتصادية والتهديد المستمر بالمواجهة العسكرية لم تترك لإيران سوى خيارات قليلة بخلاف استكشاف الدبلوماسية كوسيلة لتأمين مستقبلها.
دبلوماسية هشة
إن الزخم وراء المفاوضات النووية هش ولكنه حاضر بلا شك. يركز الجانبان على الهدف المشترك المتمثل فى منع إيران من امتلاك أسلحة نووية، مع إصرار إيران على أن برنامجها النووى مخصص للأغراض السلمية. ومع ذلك، فإن موقف الولايات المتحدة فى عهد ترامب بعيد كل البعد عن الصراحة؛ حتى المبادئ الدبلوماسية الأساسية موضع خلاف داخل إدارته، كما يتضح من الصعوبة الأخيرة فى تأمين استراتيجية متسقة للشرق الأوسط.
بالنسبة لخامنئي، فإن المخاطر أعلى بكثير. فالمحادثات لا تتعلق فقط بتخفيف المعاناة الاقتصادية أو رفع العقوبات؛ إنها تتعلق بمنع تصعيد عسكرى كارثى قد يهدد بقاء النظام. لا يأتى الضغط للتفاوض من عوامل خارجية فحسب، بل من الداخل أيضًا، حيث بدأت حتى الفصائل المحافظة داخل النظام الإيرانى ترى الدبلوماسية ضرورةً لا خيارًا.
إدارة الفصائل المحلية: عملية موازنة
على الرغم من الحماس العام للمفاوضات، وخاصةً بين الفصائل البراجماتية فى النظام، يجب على خامنئى موازنة هذه الجهود مع العناصر المتشددة فى حكومته التى لا تزال تعارض أى شكل من أشكال التعامل مع الولايات المتحدة. ينظر هؤلاء المتشددون، وبعضهم مرتبط بالحرس الثورى الإسلامي، إلى أى تنازلات للولايات المتحدة على أنها خيانة لمبادئ إيران المعادية لأمريكا.
ومع ذلك، فإن الحقائق الاقتصادية التى تواجه القيادة الإيرانية أجبرت حتى أكثر الفصائل تشككًا على إعادة النظر. لا يزال الخطاب المتشدد قويًا، حيث دافعت شخصيات مثل سعيد جليلي، الناقد البارز للمحادثات مع الولايات المتحدة، عن الجولة الأخيرة من المفاوضات، مما يعكس التحول الكبير فى الديناميكيات السياسية الداخلية.
دور الحرس الثورى الإيرانى فى الدبلوماسية
لطالما كان الحرس الثورى الإيراني، الذى يسيطر على جزء كبير من البنية التحتية العسكرية والنووية الإيرانية، معقلًا للمشاعر المعادية للغرب، لكنه يُدرك هو الآخر ضرورة تجنب الحرب والحفاظ على نفوذ استراتيجي. وبينما قد لا يتبنى الحرس الثورى الإيرانى الدبلوماسية كمبدأ أساسى فى رؤيته العالمية، فإنه يرى فى المفاوضات وسيلة لكسب الوقت والحفاظ على نفوذه فى المنطقة. وقد أوضح مكتب خامنئى أن الحرس الثورى الإيرانى يدعم المحادثات النووية، لكنه يبقى "على أهبة الاستعداد" لأى إجراءات قد تُقوّض مصالح إيران الجوهرية.
يُظهر هذا النهج المزدوج - الدبلوماسية الممزوجة بالردع العسكرى - صعوبة تحقيق التوازن الذى يواجهه خامنئي. لقد شكّلت قدرته على الحفاظ على وحدة النظام بالتزامن مع انخراطه فى الدبلوماسية مع الولايات المتحدة عاملًا حاسمًا فى الحفاظ على قيادة البلاد. وبمعنىً ما، يُعدّ دعم الحرس الثورى الإيرانى للمحادثات مشروطًا، ورغم أنه قد يُسهّل المفاوضات، إلا أن هدفه الأساسى يبقى الحفاظ على الاستقلال الاستراتيجى لإيران وقدراتها العسكرية.
حالة اقتصادية طارئة واضحة
أدت الصعوبات الاقتصادية التى تواجهها إيران، والتى اتسمت بارتفاع حاد فى التضخم، وتفشى البطالة، وتعثر قطاع الطاقة، إلى تصاعد الإحباط العام. يدعم أكثر من ٨٠٪ من الإيرانيين المفاوضات مع الولايات المتحدة، وهناك ضغوط متزايدة على القيادة لإنهاء الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن العقوبات الأمريكية. وبينما يواصل منتقدو خامنئى المتشددون التحذير من الدبلوماسية، فإن الانهيار الاقتصادى جعل من إجراء المحادثات أمرًا أكثر إلحاحًا. ومع تراجع نفوذ إيران الإقليمى وضعف وكلائها الرئيسيين، بما فى ذلك حماس وحزب الله والحوثيين، قد يكون وقت الدبلوماسية هو الملاذ الأخير لإيران.
إن احتمال تحرير مليارات الدولارات من الأصول المجمدة وفتح الأسواق العالمية قد يُنعش الاقتصاد الإيرانى فى غضون بضع سنوات، لكن على خامنئى إدارة كل من التوقعات العامة والمتشددين الأيديولوجيين داخل النظام. فالمخاطر السياسية كبيرة، إذ إن أى إخفاق فى تحقيق فوائد اقتصادية جوهرية قد يزيد من تآكل شرعية النظام.
رهانات التفاوض
يعكس انخراط خامنئى مع ترامب تحولًا أوسع نطاقًا فى الشرق الأوسط، حيث تتطور التحالفات الأمريكية التقليدية، وتظهر حقائق جيوسياسية جديدة. فبينما كانت إيران تاريخيًا منبوذة فى نظر الولايات المتحدة وحلفائها، فإن استعداد خامنئى للدخول فى محادثات يشير إلى تحول عملى نحو تأمين مستقبل إيران فى نظام عالمى سريع التغير.
مستقبل العلاقات الأمريكية الإيرانية
مع استمرار المحادثات بين طهران وواشنطن، لا تزال النتيجة غير مؤكدة. ينبع رهان خامنئى على ترامب من إيمانه بأن الدبلوماسية يمكن أن تساعد فى تجنب الحرب، التى يراها تهديدًا وجوديًا لنظامه. وبينما لا تزال تفاصيل أى اتفاق نووى محتمل غير واضحة، فإن مسار العلاقات الأمريكية الإيرانية يتجه نحو مرحلة جديدة من الانخراط، مدفوعة باعتبارات براغماتية من كلا الجانبين.
فى نهاية المطاف، قد يكون قرار خامنئى بالتعامل مع ترامب أحد أهم التحولات فى السياسة الخارجية فى المنطقة، مع ما يترتب على ذلك من آثار عميقة على كل من إيران والولايات المتحدة. وسواء أسفرت المحادثات عن اتفاق جديد أو تعثرت، فإن الواقع الأساسى يظل قائما: كلا الجانبين حريصان على تجنب الحرب، وبالنسبة لإيران، هذا يعنى تبنى الدبلوماسية - حتى مع وجود زعيم كان يُنظر إليه ذات يوم على أنه تجسيد لخصمهم.
*فورين بوليسى
0 تعليق