في البدء كانت المياه. منها خلق الله كل شيء حيا. المياه سكن وحياة. المياه خفقة قلب ودفقة هواء. المياه قطعة من أمل متجدد. صرخة صامتة تتفجر داخل أسوار الذات، ثم ما تلبث أن تتسرب خارجها، تكتسح الأخضر واليابس كالطوفان..
هكذا انسلت من دواخلي تلكم الكلمات، وأنا أبني في مخيلتي حكايتي الخاصة مع المياه في رحاب مدينة إسطنبول، حتى كدت أغرق في ذاتي، وكأنني أنا الماء ونقيضه، أو لعلني أصبحت في لحظة منفلتة قطعة من هباء.
حقيقة، إسطنبول والمياه حكاية لا تنتهي، فكيف لها أن تبدأ؟ كل تفكير في البداية حمق.. جهل، زيغ وارتماء في حضن اللايقين. مغامرة غير مضمونة العواقب. البدايات والنهايات احتمالات غير مؤكدة. لذا دعنا منها، ولنمض قدما في عمق المياه، دون التفكير في خرافة البداية، هل قلت خرافة؟ كدت أقول شرنقة.. فخ.. متاهة، أو لعلني فقط كنت ضحية سيل جارف من الكلمات..
علاقة إسطنبول بالماء قديمة قدم العالم نفسه، من الصعب الإلمام بها، أو الخوض فيها، المياه هنا أكبر من أن تختزل في معادلة فيزيائية يطغى عليها معطى الهيدروجين، مقابل ذرات حزينة من الأكسجين. المياه هنا كائن هلامي، فصيح يكاد ينطق لسانه سحرا، ثم ما يلبث أن يصيبه العي، فتعتوره عجمة تحير العقول والأفهام. للمياه هنا ملامح تتشكل على سجيتها. كل مرة تتخذ هيئة مختلفة، حسب الأهواء المنقلبة، ومسارات العشق الموسوم بتناقضاته الغريبة.
أقسم أنني شكلتها في ذهني بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب كائن حي. لذا أكاد أجزم أن المياه هنا تشكل جزءا كبيرا من هوية المكان. هل يمكن للمرء أن يتخيل إسطنبول بدون مائها؟ أبدا. للماء هنا وجود أنطولوجي لازب، لا يمكن تجاهله. يصعب الحديث عن إسطنبول دون أن يحتل الذهن ذكر البوسفور، والبوسفور يستدعي بحر مرمرة والبحر الأسود، وتحضر في الذهن جزر وبحيرات وممرات مائية وعوامات وسفن بشتى أنواعها واشكالها.
السفر إلى إسطنبول سفر نحو الماء، نحو الحضن الأول الذي منه أتينا وربما إليه نعود بصيغة من الصيغ. هنا تجد نفسك محاطا بالماء. يسكنك الماء. تمتطي صهوة الماء. تكحل عينيك بمشهد الماء. تحلق مع النوارس فوق الماء. تحب الماء. تكرهه، ثم تهفو نفسك لتصبح أنت نفسك ماء، ثم يتملكك الحماس، ويأخذ بتلابيبك، فتقدم للماء وردة بلون الفرح، يقبلها منك الماء بكل امتنان، فيهديك حكاية معتقة، تدفئ أحلامك في الليالي الباردة.
في رحلتنا هذه تعددت لقاءاتنا بالماء. وكلما حل موعد اللقاء، كانت المشاعر تتناقض، تبتهج باستحضار فكرة الطفو الجميل على صفحة هذا الكائن الخرافي البديع، وتضطرب متوترة خوفا من شيء غامض، قد يكون غثيانا محتملا يسببه دوار الإبحار، أو مجرد فكرة غامضة تحتل الذهن لحظة ثم تسعى جاهدة لمقاومتها.
العبور من إسطنبول الأوربية نحو شقيقتها الآسيوية وعد بمتعة متجددة، بفرح يتسلل نحو الفؤاد، ينمو مع الريح التي تسحب الأمل في الوصول إلى الضفة الأخرى، في أقرب وقت ممكن. العبارة ضخمة. تحملنا بحافلتنا، وتشق عباب المياه غير مبالية، ونحن الوافدون على هذا البوسفور ما زلنا لم نستوعب بعد كل ما يحدث أمام أعيننا الحيرى، لكننا نستلطفه، ونعيش أجواءه بفرحة الطفل بلعبة جديدة، سرعان ما يستأنس بها، ثم يتخلص منها في أول فرصة سانحة.
السفن كذلك غواية من نوع مختلف، ليست مجرد وسائل نقل تبحر بالمرء في أعماق المياه. بل هي متعة مضاعفة، تفتح لك باب الحلم على جهتين. في جوفها الفرح، في باطنها فرح مضاعف. في داخلها تستمتع بالسهرات التي أعدت على عجل لتمنحك قبضة من سرور مستحق، وتعرفك على جنسيات مختلفة، جاءت هنا تطارد قبسا من سعادة منفلتة.
وفي باطن السفينة يتحالف الماء والجواري، التي تعبر البوسفور متباطئة أو على عجل، بأن تمنحك فرصة التقاط أنفاسك، والغوص في ذاتك الثانية، التي تجلت لك فجأة من عدم، فتكاملت معها بلا تردد، لتشعر كأنها كانت هنا منذ الأزل.
لحظتها تعود لك حكاية الماء، بكل عنفوانها. لحظة خلق، وفرح، وحب، وابتسامة زئبقية لا تدوم على حال، ونورس ضاع من سربه، بحثا عن أنثاه الضائعة في مسارات الحياة الملتوية..
أغنية متمردة. زغرودة تعبر الشفاه، تتنقل من لسان إلى لسان كعدوى إفريقية لا شفاء منها. ضحكة منفلتة. نظرة تجوب أجواء البحر الباردة، تحلق عليا، تلتقط مشاهد متناقضة، ثم تعود إليك سالمة.
وحين تنال جرعتك الكافية من الجمال والحب والانتشاء، تفتح صدرك للماء، تطوي قطعة منه. قد تكون موجة، أو تيارا غير مرئي، أو حفنة تملأ باطن الكف، أو مجرد حلم بالامتلاك، تتأمل لونه اللازوردي الفاتن، تبتسم، ثم تخاتله، وتخفيه في باطن القلب والأوردة. تعده على الوفاء، وأنت لا تضمن لنفسك أي فرصة للبقاء، فأنت هنا تخشى في كل لحظة أن لا يتحمل قلبك كل هذه الفتنة الصارخة، فتغرقك في تلابيبها، وتغدوان والعدم سواء.
الماء في إسطنبول يا صديقي رواء وارتواء، وهو لا يحيط باليابسة ويسمها بميسمه الخاص، بل هو صديق دائم لا تنفك بلوراته الكريستالية البديعة تفاجئنا كل يوم وهي تداعب سحناتنا، وهي تهل علينا من صفحة السماء.
0 تعليق