في لحظة تاريخية ينتظرها الملايين حول العالم، تتّجه الأنظار اليوم، 18 مايو، إلى ساحة القديس بطرس في الفاتيكان، حيث تُقام مراسم تنصيب البابا لاون الرابع عشر، خليفة البابا الراحل فرنسيس، الذي انتُخب قبل أيام داخل الكابيلا سيستين، الكنيسة التي خلدها الفنان الإيطالي مايكل أنجلو بتحفته الفنية الخالدة على سقفها.
لكن الحدث الديني البارز هذا العام يتقاطع مع مناسبة فنية وثقافية موازية، هي الذكرى الـ550 لميلاد مايكل أنجلو، حيث انطلقت الاحتفالات منذ مارس الماضي في مدن إيطالية عدّة، أبرزها فلورنسا، عاصمة الفنون. وبين التنصيب والاحتفاء، يبرز اسم مايكل أنجلو بوصفه العبقري الذي حوّل الفاتيكان إلى متحف مفتوح لعصر النهضة.
كابيلا سيستين… من تحدٍ شخصي إلى أعظم ملحمة بصرية
في عام 1508، كلّف البابا جوليو الثاني الفنان الشاب مايكل أنجلو، الذي لم يكن يتقن الرسم الجداري بتقنية الفريسكو، بتزيين سقف كنيسة الكابيلا سيستين ورفض أنجلو في البداية، بل اقترح الرسام الشهير رافاييل بديلاً له، لكن إصرار البابا دفعه إلى قبول التحدي، وتحويله إلى أعظم مغامرة فنية في حياته.
على مدى أربع سنوات، عمل مايكل أنجلو وحيداً، صمم سقالاته الخاصة، خلط ألوانه بنفسه، وصعد يومياً لرسم لوحات جسّدت مشاهد من الكتاب المقدس، من خلق آدم إلى يوم الحساب، على مساحة تقارب 1000 متر مربع. ألوانه، تعبيراته، ودقّته في تشريح الأجساد البشرية، جعلت من السقف كتاباً مفتوحاً عن الخلق والخلود.
لم يكن سقف الكنيسة وحده كافياً لتخليد مايكل أنجلو في الفاتيكان، فإحدى أبرز محطاته كانت تمثال “الرحمة” (Pietà)، المعروض في كاتدرائية القديس بطرس. نحته أنجلو في أوائل العشرينات من عمره، وجسّد فيه الحزن العميق للسيدة العذراء وهي تحتضن السيد المسيح، بتكوين ينطق بالرحمة ويقطر فناً وإنسانية.
النقّاد اعتبروا هذا العمل نقطة تحوّل في فن النحت، حيث دمج أنجلو بين دقة التشريح ورهافة الإحساس، مما جعل التمثال نموذجاً يُدرّس في كبرى أكاديميات الفنون حول العالم.
قبّة القديس بطرس… توقيع معماري على قمة العالم المسيحي
قبل رحيله، وضع مايكل أنجلو بصمته على أحد أعظم المشاريع المعمارية في التاريخ: قبّة كاتدرائية القديس بطرس. استوحى تصميمها من البانتيون في روما، لكنها فاقت بتعقيدها وجمالها الفني.
رغم أنه لم يشهد اكتمالها، فإن القبة التي انتهى بناؤها عام 1590 على يد جياكومو ديلا بورتا، بقيت تحمل روحه وهندسته. اليوم، تعلو القبّة فوق ضريح القديس بطرس، شاهدة على عبقرية لا تُنسى، وممهورة بعبارة “القديس بطرس” المنقوشة باللاتينية.
الفاتيكان… حين تتحول الروح إلى فن
قصة مايكل أنجلو في الفاتيكان، ليست فقط حكاية فنان استثنائي، بل قصة تحوّل المؤسسة الكنسية إلى راعٍ عظيم للفنون. البابوات، من جوليو الثاني إلى سيستو الخامس، لم يكتفوا بتكليف الفنانين، بل فتحوا لهم أبواب الخيال والإبداع ليصنعوا أعظم أعمال الإنسانية.
واليوم، ومع تنصيب بابا جديد، تعود الذاكرة إلى تلك العلاقة العميقة بين الدين والفن، بين الروح واليد، وبين العبقرية والرعاية المؤسسية، حيث يبقى مايكل أنجلو أيقونة خالدة في قلب الفاتيكان.
0 تعليق