العنف ضد المرأة جرح في ضمير الإنسانية

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في الزمن الذي يفترض فيه أن تكون الحضارة درعاً والعقل سيداً، لا تزال المرأة تُضرب، وتُهان، وتُقتل، لا لأنها مذنبة بل لأنها امرأة. وكأن أنوثتها جريمة، وصوتها خروج عن النص ووجودها إعلان تمرد على نظام كُتب بلغة ذكورية.

تتزايد هذه الأيام حوادث العنف ضد النساء في مجتمعاتنا بوتيرة موجعة.. القتل لم يعد فعلاً استثنائياً بل مشهداً متكرراً في نشرات الأخبار.. والعين اعتادت الدم حتى صارت لا تدمع، لكن السؤال الفلسفي الأعمق ليس فقط: لماذا يُقتل الجسد؟ بل: لماذا يُلغىَ الوجود؟.. لماذا يخاف الإنسان من المرأة إلى هذا الحد؟ أو كما يقول الفيلسوف حسن حماد: “إن القاتل الحقيقي ليس السكين، بل الثقافة التي باركت يد القاتل وأغمضت عينها عن الضحية”. ويرى في كتابه "القمع المقدس" أن الأديان الإبراهيمية جميعا ازدرت المرأة وجعلت  منها شريكة الشيطان لا شريكة الإنسان. ففي اليهودية، تعتبر حواء أصل الخطيئة وسر الطرد من الجنة. وفي المسيحية، يرسخ المجمع المسكوني الرابع بأن المرأة سبب سقوط الرجل. أما في بعض القراءات الإسلامية المتشددة، فيصور جسدها كمصدر دائم للفتنة، وعقلها كنصف لا يكتمل.

إننا لسنا أمام أزمة قانون، بل أمام انهيار في البنية الأخلاقية والوعي الجمعي، حيث تصاغ الأنوثة كتهديد، لا كقيمة، وحيث تضرب المرأة بحجة التأديب، ويُغسل دمها بماء الشرف.

فكيف يمكن لفلسفة تؤمن بالحرية، ولمجتمع يدعي الحداثة أن يقف عاجزاً أمام هذه الأحداث اليومية؟ وهل يمكن للضمير أن يستيقظ، أم أن صوت المرأة سيبقى محاصراً بين جدران الخوف والخذلان؟

 في كل مرة تضرب فيها امرأة، لا يكسر عظمها فقط، بل يهشم المعنى ذاته، ذلك المعنى الذي يجعل من الإنسان كائناً أخلاقياً لا بيولوجياً فقط. فالصفعة على وجه امرأة هي في حقيقتها صفعة على وجه الحضارة، وطعنة في قلب العقل، وانحدار في قاع الوحشية.

إن تزايد حوادث ضرب وقتل النساء ليس مجرد إحصاء في تقارير حقوق الإنسان، بل هو مؤشر على فشل الإنسان في أن يكون إنساناً. وكما يقول الفيلسوف أحمد برقاوي: "حين يغيب الوعي بالآخر كذات حرة، يصبح العنف هو اللغة الوحيدة للتعامل معه".

العنف ضد المرأة لا ينبع من رجولة فائضة، بل من رجولة ناقصة، تخاف من الاستقلال، وترتعب من القوة الكامنة في المرأة. إنه عنف الضعفاء الذين لم يتصالحوا مع ذواتهم، فصبوا أزماتهم على أجساد النساء.

العنف هنا ليس فعلاً لحظياً، بل نتيجة لتراكم سرديات مشوهة عن الأنوثة، تبدأ من التراث والمرويات مروراً بمناهج التعليم. وفي كثير من الحالات، يعاد إنتاج العنف من خلال خطاب ديني مؤوّل، وتقاليد لا تزال تبرر تأديب المرأة أو حتى قتلها تحت ذرائع الشرف والغيرة والرجولة، وانتهاء بالإعلام الذي يشيطن المرأة الحرة ويرتقي بالخاضعة.

الضرب والقتل ليسا فقط أفعالاً جسدية، بل هما شكل من أشكال إنكار الذات الأنثوية ورفض حريتها. وهو ما يشير إليه الفيلسوف حسن حماد بقوله: "المرأة ليست نصف المجتمع فحسب، بل هي قلب المجتمع وعقله، ولكنها ضحية لعقل ذكوري مهووس بالقوة، يخفي ضعفه وراء قناع الهيمنة".

والأخطر من ذلك، أن النساء أنفسهن في كثير من المجتمعات يجبرن على الصمت، ويقنعن بأن معاناتهن جزء من القدر أو الطبيعة الأنثوية  وكأن الألم قدرٌ حتمي والسكوت عنه فضيلة.

وليس العنف ضد المرأة مجرد حالة فردية، بل هو انعكاس لبنية ثقافية واجتماعية ترى في المرأة كائناً ثانوياً، وتمنح الرجل امتيازات غير مبررة لمجرد كونه ذكراً. وكما يوضح الفيلسوف أحمد برقاوي: المرأة ليست هي الصورة النمطية التي صنعها المجتمع، بل هي إمكان إنساني مفتوح. وجود لا يختزل في أمومة ولا يحبس في جسد.

إن الفلسفة، في جوهرها، تدين كل أشكال الإلغاء. فهي تعتبر الإنسان كائنا حرا، لا يختزل في الجسد أو النوع.. فالعنف ضد المرأة ليس مجرد فعل جسدي أو نفسي، بل هو فعل وجودي، ينتهك كرامة الكائن، ويجرده من معناه الإنساني. وكما قال جان بول سارتر: "الآخر هو الجحيم حين يسلبنا حريتنا"، وهنا، يصبح العنف وجها للجحيم، حين يمارس على من وجدت لتكون نبعاً للحنان والسلام.

إن هذا العنف، بمختلف أشكاله، لا يعكس قوة الجلاد بقدر ما يفضح هشاشته، لأن من يملك الوعي لا يحتاج للقسوة، ومن يعرف جوهر المرأة لا يستطيع إلا أن يجلها. وكما يقول سقراط: "الحياة غير المفحوصة لا تستحق أن تعاش"، فإن مجتمعاً لا يفحص ممارساته تجاه المرأة، هو مجتمع فاقد لأهليته الأخلاقية.

الفلسفة تعلمنا أن الإنسان يعرف بإرادته الحرة، وأن الكائن العاقل كما يرى كانط، لا يجب أن يعامل أبداً كوسيلة، بل كغاية في ذاته.. فأي انحدار أخلاقي حين تتحول المرأة إلى وسيلة لإثبات السلطة أو تنفيس الغضب أو ترسيخ الهيمنة الذكورية؟.

 إن العنف ضد المرأة ليس مسألة نسوية فقط، بل قضية فلسفية وأخلاقية من الطراز الأول. إنه اعتداء على قيمة العدالة وانحراف عن جوهر الإنسانية. فمن يضرب امرأة، يضرب المعنى، ويشوه الفكرة.

إن كل امرأة تضرب أو تقتل هي جرح في ضمير المجتمع، وندبة في وجه العدالة. وإذا كان الصمت عن الجريمة مشاركة فيها، فإن التبرير لها خيانة للإنسانية. ولا يمكن للمجتمع أن يرتقي ما دامت نساؤه يكسرن في الخفاء، ويسكتن باسم الأعراف أو الدين أو الخوف. وكما قال نيتشه: "كل من يقاتل الوحوش عليه أن يحذر ألا يتحول هو نفسه إلى وحش." فلنحذر أن يصبح الصمت على العنف ضد المرأة، وحشا يلتهم ما تبقى فينا من ضمير.. مجتمع يعنف نساءه هو مجتمع ينتحر معنوياً كل يوم.

ولا خلاص من هذا الموت البطيء إلا بإعادة الاعتبار للمرأة كذات حرة، كصوت لا يقصى، وكحضور لا يختزل في الدور أو الجسد.

علينا أن نصغي إلى صرخة المرأة لا لأنها ضحية فقط، بل لأنها ناقوس الوعي. وكما قال نيتشه: كل ما لا يقتلني يجعلني أقوى، إلا أن المرأة لم تخلق لتنجو فحسب، بل لتحب، وتبدع، وتعيش.

*كاتبة وباحثه في الفلسفة 

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق