تتجه الأنظار نحو مصر هذه الأيام، ليس فقط لكونها مهد الحضارات، بل لاحتضانها مشروعًا طموحًا يهدف إلى إحياء وتطوير «مسار العائلة المقدسة»، هذه الرحلة المباركة التي خطتها العائلة المقدسة – السيد المسيح مريم العذراء ويوسف النجار – هربًا من بطش هيرودس.
رحلة العائلة المقدسة ليست مجرد قصة دينية عابرة، بل هي جزء لا يتجزأ من التراث الثقافي والديني لمصر، وتتحول اليوم إلى مشروع قومي يهدف إلى جذب ملايين الزوار من مختلف بقاع العالم، وتقديم وجهة سياحية فريدة تجمع بين العمق الروحي، التاريخ العريق، والجمال الطبيعي.
عمق إيماني يتجاوز العصور
المسار يمتد عبر نحو 25 موقعًا تاريخيًا ودينيًا في ثماني محافظات مصرية؛ بدءًا من شمال سيناء ثم الشرقية، الدقهلية، الغربية، كفر الشيخ، المنوفية، القاهرة، وصولًا إلى أسيوط، قطعها العائلة المقدسة سيرًا على الأقدام، أو عبر المراكب النيلية، أو على ظهور الدواب.
تُخلد هذه الذكرى وجودها في أرض مصر لأكثر من ثلاث سنوات ونصف، فكل محطة من هذه المحطات تحمل قصة ومعجزة، من البئر الذي نبع منه الماء ببركة المسيح، إلى الشجرة التي استظلت بها العائلة، وحتى الكنائس والأديرة التي بنيت تخليدًا لها.
المشروع القومي رؤية استراتيجية للتنمية
أولى الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، اهتمامًا خاصًا بهذا المشروع، ووجه بتطويره بشكل شامل، إدراكاً لأهميته الدينية والسياحية والاقتصادية، وانطلاقًا من توجيهاته عملت الحكومة، على تذليل جميع العقبات أمام المشروع القومي لإحياء «مسار العائلة المقدسة».
رئيس الوزراء يستعرض مقترحًا حول الاستغلال الأمثل
استعرض مساء أمس، الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، مقترحًا للاستغلال الأمثل سياحيًا لمسار العائلة المقدسة، وذلك في لقاء عقده اليوم بحضور المستثمر السياحي، منير غبور، وعدد من المستثمرين.

وخلال اللقاء، أشار «غبور»؛ إلى أن هذا المشروع يقوم على رؤية للتطوير الشامل للمناطق التي تضم عدداً كبيراً من الأديرة والكنائس، من خلال إقامة عدة فنادق تخدم السياح الذين سيزورون هذه المباني الدينية، بما يحقق هدف خلق تجربة روحانية فريدة للزائرين للتعرف على المسار المقدس بنقاطه المختلفة.
تمويل 5 مليارات جنيه
وأكد المستثمر السياحي، منير غبور، أن هذا المشروع الواعد سيحظى بتمويل ذاتي، لافتًا إلى أنه تم تأسيس شركة برأسمال 5 مليارات جنيه ستبدأ في التجهيز لهذا المشروع.
بدوره، يقول الأنبا مرقس مطران شبرا الخيمة وتوابعها، وعضو اللجنة البابوية المشرفة على المسار، إن هذا المسار هو كنز روحي لمصر والعالم أجمع، ورحلة تجسد الإيمان والصبر، وتشهد على أن مصر كانت دائمًا ملاذًا آمنًا للمضطهدين، مشيرًا إلى أن إحياء هذا المسار ليس مجرد مشروع سياحي، بل هو رسالة للعالم بأن مصر هي أرض البركة والسلام.
الاعتراف الفاتيكاني وفتح آفاق جديدة
كان الاعتراف الفاتيكاني بالمسار كرحلة حج مسيحية في عام 2017 بمثابة دفعة قوية للمشروع، فقد فتح هذا الاعتراف الباب أمام أفواج الحجاج المسيحيين من جميع أنحاء العالم لزيارة هذه المواقع المقدسة في مصر.
ففي السياق ذاته، يوضح الأب رفيق جريش، كاهن كاثوليكي وعضو سابق في لجنة تطوير المسار، أن موافقة الفاتيكان كانت نقطة تحول حاسمة، كما أنها تؤكد على صحة المسار تاريخيًا ودينيًا، وتجعل منه وجهة رسمية للحج المسيحي، مما سيزيد من أعداد الزوار بشكل كبير.
ويشمل المشروع جوانب متعددة، منها «البنية التحتية»: تحسين الطرق المؤدية إلى المواقع، وإنشاء محطات استراحة ومراكز خدمة للزوار، وتوفير وسائل نقل مريحة وآمنة، و«تأهيل المواقع الدينية»: ترميم الكنائس والأديرة الأثرية الواقعة على المسار، وتطوير المناطق المحيطة بها لتكون جاذبة للزوار.
وقد تم الانتهاء من ترميم العديد من المواقع، مثل كنيسة العذراء مريم والشهيد أبانوب بسمنود، ودير جبل الطير بالمنيا، وكنيسة أبي سرجة بمصر القديمة، «الترويج السياحي»: إطلاق حملات دعائية عالمية للتعريف بالمسار، وإبراز قيمته الروحية والتاريخية. كما يتم التنسيق مع شركات السياحة العالمية لإدراج المسار ضمن برامجها السياحية.
كما تشمل جوانب التطوير أيضًا؛ «تنمية المجتمعات المحلية»: إشراك المجتمعات المحيطة بالمواقع في عملية التطوير والاستفادة منها اقتصاديًا، من خلال توفير فرص عمل، وتدريب السكان المحليين على تقديم الخدمات السياحية، وتسويق المنتجات اليدوية المحلية.
التحديات والفرص.. طريق الألف ميل يبدأ بخطوة
رغم التقدم الذي تم تحقيق، يواجه المشروع بعض التحديات، منها، الحاجة إلى استراتيجية تسويقية عالمية قوية ومستمرة تتجاوز النطاق التقليدي وتصل إلى جمهور أوسع، وضمان وجود كوادر بشرية مدربة على أعلى مستوى لتقديم الخدمات السياحية وإدارة المواقع بكفاءة.
إضافةً إلى ضرورة التنسيق الفعال بين مختلف الوزارات والهيئات المعنية «السياحة والآثار، الأوقاف، التنمية المحلية، النقل، الداخلية» لضمان سير العمل بسلاسة.
ومع ذلك، فإن الفرص المتاحة هائلة يمكن أن يتحول المسار إلى وجهة سياحية رئيسية، ليس فقط للسياحة الدينية، بل للسياحة الثقافية، البيئية، والترفيهية أيضًا، يمكن للمناطق المحيطة بالمواقع أن تستفيد من التنمية الاقتصادية، وتوفير فرص عمل للشباب، وتحسين مستوى الخدمات.
إرث روحي ومستقبل مشرق
تطوير مسار العائلة المقدسة في مصر ليس مجرد مشروع سياحي، بل هو استثمار في التراث الثقافي والحضاري لمصر، وتعزيز لمكانتها كمركز ديني عالمي، ورسالة سلام وتسامح للعالم أجمع.
ومع استمرار الجهود المبذولة، يصبح هذا المسار ليس فقط رحلة إيمانية عبر التاريخ، بل جسراً يربط الماضي بالمستقبل، ويفتح آفاقاً جديدة للتنمية والازدهار في قلب أرض الكنانة.
0 تعليق