حين يختنق النبل في دهاليز السياسة

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

حين يُستدعى النبل إلى ساحة السياسة، فإنه لا يأتي خفيف الظل ولا ساذج النوايا. النبل ليس مجرد زينة أخلاقية تُعلق على صدر الفاعل العمومي لتجميل صورته أمام الرأي العام، بل هو موقف متجذر في قناعة راسخة بأن الغاية لا تبرر الوسيلة، وأن المعركة السياسية، في أوج تعقيداتها وصراعاتها، تظل في جوهرها معركة من أجل الكرامة الجماعية، لا مكيدة لصناعة المجد الفردي. ومن هنا، يصبح السؤال المركزي: هل يمكن أن يصمد النبل في عالم تحكمه ميزان القوى، وتُديره التنازلات، وتُرسم خرائطه بلغة البراغماتية القاسية؟ وهل لا يزال ممكناً أن يُمارس العمل السياسي بضمير أخلاقي دون الوقوع في فخ الانعزال الطهوري أو الابتذال الشعبوي؟

لقد أنتج التاريخ السياسي المعاصر نماذج متعددة من التوتر بين النبل والواقعية السياسية. فكلما ازداد إغراء السلطة، تقلص هامش الأخلاق. وكلما برزت الحاجة إلى التحالفات، ضعفت القدرة على مقاومة الإغواءات الانتهازية. لكن المفارقة الكبرى أن السياسة التي تفقد النبل، تفقد مبرر وجودها ذاته. إذ لا يمكن لمشروع تحرري أن يُبنى على أسس لا أخلاقية دون أن ينقلب إلى نقيضه، ولا يمكن لحركة تاريخية تدّعي الانتصار للمظلومين أن تتورط في صفقات مع الجلادين بذريعة “المرحلة” أو “الضرورة”.

حين نتأمل ما جرى ويجري في الواقع السياسي، نلمس بوضوح كيف أُفرغت السياسة من محتواها النبيل، لتتحول إلى سوق للمصالح العابرة، تُباع فيها المبادئ تحت الطاولة، وتُشترى فيها المواقع بلغة الولاء لا الكفاءة. هناك من اختار أن يتعايش مع هذا المنطق، مبرراً سقوطه بذرائع الواقعية، وهناك من انزوى في برج عاجي يلعن “الواقع” دون أن يلامسه، بينما تظل القلة القليلة تصارع لإبقاء جذوة النبل مشتعلة وسط العتمة، وهي تعلم أن كلفة الصمود قد تكون العزلة، وربما التهميش.

ليست السياسة النبيلة خرافة رومانسية، بل هي تجسيد ملموس لمسؤولية تاريخية تجاه الجماعة الوطنية. إنها تعني ممارسة الفعل السياسي بما يُعيد الثقة للناس في جدواه، ويفتح أمامهم أفق الأمل، لا مجرد البحث عن “موقع” في رقعة نظام يلتهم معارضيه عبر الاحتواء أو التشويه. وهي أيضاً تعني التمرد على ثقافة الابتزاز السياسي، حيث يتحول الطموح المشروع إلى طمع فاضح، وتصبح الكرامة بضاعة قابلة للتفاوض.

لقد صار لزاماً أن نُعيد الاعتبار لفكرة أن السياسة لا تُفقد معناها إلا حين تنفصل عن المعنى الأخلاقي للنضال، حين تصبح القدرة على المراوغة بديلاً عن الجرأة في الموقف، وحين يغدو الصمت حكمة لا خياراً مفروضاً. فالنبيل ليس من يتفاخر بنظافة يديه، بل من ينزل إلى المستنقع دون أن يُلطخ مبادئه، ويخوض معارك يومية في مواجهة الرداءة، دون أن ينزلق إلى لغتها.

ثمة من يتصور أن النبل ضعف في زمن تتسيد فيه الوقاحة. لكن الحقيقة أن النبل هو المقاومة الصامتة للأعطاب الكبرى التي نخرت الجسم السياسي: الفساد، الزبونية، النفاق المؤسسي، التسويات المذلة، الهرولة نحو الامتيازات. والنبيل، في هذا السياق، ليس قديساً منزهاً، بل هو الفاعل السياسي الذي يختار أن يحاسب نفسه قبل أن يُحاسبه التاريخ، ويحرص على ألا يغادر هذا المسار وفي عنقه خيانة أو خذلان.

قد تكون السياسة، كما يُقال، فنّ الممكن. لكن السياسة النبيلة هي فن توسيع الممكن لا الارتماء في حضن المستحيل، وهي فنّ تحويل الحلم الجماعي إلى مشروع قابل للإنجاز، لا تبرير العجز بلغة الواقعية الفجة. ومن هنا تبرز الحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى استعادة ذلك الخط الفاصل بين من يمارس السياسة كأداة للتمكين الفردي، ومن يراها التزاماً أخلاقياً جماعياً. الخط بين من يركب الموجة ليصل، ومن يشق طريقه ضد التيار لأنه يؤمن أن ما لا يُبنى على النبل لا يصمد أمام التاريخ.

إن استعادة المعنى النبيل للسياسة لا يمكن أن تكون مجرد خطاب، بل هي سيرورة تُختبر في المواقف، في التحالفات، في لغة الخطاب، في احترام الوعود، وفي القدرة على مواجهة الذات قبل الخصوم. وهي أيضاً استثمار في الزمن الطويل، حيث لا يهم أن يحصد الفاعل الاعتراف اليوم، ما دام التاريخ سيصطف ذات يوم إلى جانبه لأنه اختار أن يكون شاهداً على زمن الرداءة، لا شريكاً فيه.

وفي الأخير، فإن النبل ليس شعاراً يُرفع بل سلوك يُمارس. والسياسة حين تُفقد نبلها، لا تختلف كثيراً عن مهنة بلا روح، عن سفينة بلا بوصلة، وعن خطبة بلا مضمون. وحده الفاعل الذي يجعل من النبل دليله، حتى حين يخسر المواقع، هو من ينتصر في نهاية المطاف. فالنبل في السياسة ليس طريقاً سهلاً، لكنه الطريق الوحيد الذي يجعل من الهزيمة انتصاراً أخلاقياً، ومن الصمت موقفاً، ومن التواضع ثورة.

أخبار ذات صلة

0 تعليق