
تعاني منظومة التربية والتكوين في بلادنا من مشكلات عويصة شتى ما فتئت تتوسع دوائرها، وتزداد درجات تعقيدها، ولم تنفع محاولات الإصلاح المتواترة في حلها أو حتى الحيلولة دون تفاقمها؛ ومن هذه المشكلات مشكلة ما سميناه بالنجاح بلا استحقاق، ونعني بذلك تمكن فئة من المتعلمين والطلبة أو الموظفين من الظفر بصورة من صور النجاح، كالانتقال من مستوى دراسي إلى آخر، أو نيل شهادة تعليمية، أو الترقي في الرتب والدرجات دونما جدارة واستحقاق.
ولتحقيق هذا النجاح المزيف المغشوش، يلوذ هؤلاء بالاعتماد على أساليب ملتوية غير مقبولة، منافية للقيم الفضلى، شعارهم في ذلك الغاية تبرر الوسيلة، ومن هذه الأساليب:
– استجداء النقط: لا يتورع بعض المتعلمين والمتعلمات، أو أولياء أمورهم في كثير من الأحيان عن تسول النقط من المدرسين، وهم يقدمون على هذا الفعل المشين بلا أدنى تحرج أو غضاضة، فيبالغون في شكوى الحال، ويسرفون في الاستعطاف، ويجأرون بدعوات الخير، ليحركوا الرأفة، ويستثيروا الشفقة، في مشاهد أشبه ما تكون بمشاهد المتسولين وهم يستجدون المارة، ويسألونهم التصدق بالدرهم والدرهمين.
– الدعم مقابل النقط: يلجأ بعض المتعلمين إلى الاستفادة من حصص الدعم التي يقدمها أساتذتهم بالمقابل في مساكنهم أو في غيرها من الأماكن المتكاثرة المهيأة لهذا الغرض، وهم لا يسعون من وراء ذلك إلى تعزيز مكتسباتهم، أو تثبيت تعلماتهم الصفية، أو تطوير كفاياتهم، أو الارتقاء بقدراتهم؛ بل يتخذون من هذه الحصص ذريعة للمقايضة، فيحضرون هذه الحصص حضورا شكليا، وقد لا يحضرونها، وكل همهم هو الظفر بتساهل في التصحيح، أو نقط زائدة في اختبارات المراقبة المستمرة.
الغش: الغش في الاختبارات والامتحانات من الطرق الملتوية المستشرية، فقد تزايد مقترفوه، فلم يعد مجرد حالات معزولة محدودة؛ كما أنه تطورت طرائقه، بحيث لم يعد محصورا كما كان من قبل في التماس الجواب الصحيح من الزملاء النجباء، أو استراق النظر إلى أوراقهم، أو الاعتماد على الوريقات المستنسخة المدسوسة في الأكمام وغيرها من المواضع في غفلة أو تغافل من الحراس، وإنما بات الغش اليوم يعتمد كليا على ما تتيحه التكنولوجيات الحديثة للإعلام والاتصال من أجهزة في غاية الدقة، وتطبيقات في منتهى المرونة والفعالية، بلغت ذروتها مع ثورة الذكاء الاصطناعي.
شراء الشهادات: إن شراء الشهادات، والشهادات العليا بخاصة سلوك في منتهى الخطورة؛ لأنه استحواذ دون موجب حق على وثيقة رسمية فريدة لا يسلم منها نظير آخر، شهادة يفترض أنها لا تمنح إلا بعد تحصيل علمي، وإعداد لمشروع، أو بحث، أو أطروحة، أو رسالة، تحت إشراف مؤطرين، ومناقشات مستفيضة، وتداول محتدم من قبل لجان عليمة مسؤولة. ويستغرق ذلك كله سنين طويلة من البحث العلمي الدؤوب. إن ابتياع الشهادات العلمية بمبالغ باهظة خيالية لاستغلالها في شغل المناصب، أو الترقي في السلالم، ما كان ليحدث لو لم يجد سماسرة وتجار شهادات تجردوا من كل القيم، وتجرؤوا على اقتراف هذا الجرم الشنيع ليراكموا الثروة، فأساؤوا بذلك أيما إساءة إلى أنفسهم وأسرهم والمؤسسات التعليمية التي ينتسبون إليها، وأبناء الوطن الذي ينتمون إليه.
إن النجاح بمثل هذه الأساليب الوضيعة وغيرها نجاح باطل كل البطلان؛ ذلك أنه ما بني على باطل فهو باطل؛ لأنه نجاح يأتي عفوا بلا تعب، بلا استحقاق، بلا رصيد علمي، بلا حظ أخلاقي، والتساهل في شيوعه يشكل في الحال والاستقبال خطرا كبيرا على منظومة التربية والتكوين، ومنظومة القيم؛ ذلك أنه يضرب بعرض الحائط مبادئ الإنصاف والمساواة وتكافؤ الفرص والنزاهة والكفاءة، ويقوض قيم العمل والجد والمثابرة، ويفتح مسالك واسعة للكسل والوصولية والانتهازية والاتكالية، ويشيع في المجتمع مناخا ضبابيا أسود يسوده الإحباط واليأس والتشكيك وفقدان الثقة.
النشرة الإخبارية
اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدة هسبريس، لتصلك آخر الأخبار يوميا
اشترك
يرجى التحقق من البريد الإلكتروني
لإتمام عملية الاشتراك .. اتبع الخطوات المذكورة في البريد الإلكتروني لتأكيد الاشتراك.
لا يمكن إضافة هذا البريد الإلكتروني إلى هذه القائمة. الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني مختلف.
0 تعليق