خريصي: الصورة أداة للرأي والتأثير

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

قال الدكتور محمد خريصي إن افتتاح الندوة الوطنية التي تنظمها كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة محمد الخامس بالرباط، بشراكة مع ماستر “السرديات الثقافية والسيميولوجية”، والتي اختير لها عنوان “الصورة في الزمن الأيقوني الجديد”، يُقام في سياق الاهتمام المتزايد بوسيط الصورة بوصفها إحدى مكونات التواصل الإنساني الذي أصبح لا محيد عنه في زمن الثورة الرقمية وتدفق المعلومات.

وأضاف الأكاديمي خريصي، عضو اللجنة التنظيمية بالكلية، أن اختلاف الآراء تجاه الصورة بين محتف وحذر، وما باتت تحتله اليوم من تباين هذه الآراء على مستوى توزع مواقفها، جعل المختصين ينظرون إلى الصورة بوصفها تجسيدا متطورا للحداثة، إلى الحد الذي جعلها في مجتمعاتنا الحديثة مصدرا لصناعة الرأي وعلاماتها المكونة سندا مُلهما للمعنى المتولد عن قراءتها، وتأويل رموزها دعامة لإنتاج القيم، علاوة على قدرة الصورة بسلطها هذه تشكيل الوعي والوجدان والذوق والسلوك الإنساني.

عقب ذلك، أكد الدكتور محمد المعتمد الخراز أنه في سياق الاهتمام الكوني بالصورة بصفتها دِعَامةً من دِعامات التواصل البشري بتقنيات ومواصفات جديدة ومتطورة. فإن الأخيرة أضحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية مثل باقي مكونات الحياة التي تلبي حاجاتنا الضرورية لاستدامة البقاء على وجه البسيطة. فضلا عن ذلك أسهمت الصورة في تحسين نمط عيشنا وتفكيرنا وذوقنا، ويسرت التواصل، وقلصت المسافة بين البشر لتنسيق مشاريعهم المشتركة وتبادل الخبرات والتجارب فيما بينهم.

واستعرض الخراز بعض الأرقام الكاشفة عن مدى رسوخ الصورة في المجتمع الراهن، مؤكدا أن الحصيلة ستتضاعف أضعافا باستيعاب الأفلام، والفيديوهات، ووسائل الإيضاح التربوية، والصور الشخصية، واللوحات التشكيلية.

وأبرز الباحث في هذا السياق انخراط التكنولوجيا الجديدة في صناعة الصورة بتقنيات ومواصفات جديدة ومتطورة، وفي التلاعب بها أو تطويعها ببرامجَ مُتْقَنَة ومتقدمة؛ ومن ضمنها الذكاء الاصطناعي. تحمل هذه الطفرة التكنولوجية إيجابياتِ كثيرةً في طياتها تطلعا إلى استثمار الصور تواصليا وتربويا وإعلاميا، والرفعِ من جودتها وفاعليتها وتأثيرها في مختلف مناحي الحياة البشرية ومرافقها الحيوية. ومع ذلك لا تخلو من مخاطر وسلبيات من جراء التلاعب بالصور ومعالجتها بالتصرف فيما تتضمنه من “بصمات شخصية”.

وأضاف المتحدث ذاته أن البرامج تتيح إمكاناتِ تعديل شكل الصورة وألوانها ومحتوياتها، وإعادة تأثيثها بعناصر جديدة لبواعث مغرضة. وهكذا لا تلغي التعديلات الصورةَ الأصليةَ فحسب، بل تضعُ محلَّها صورةً جديدةً تنوب عنها في أداء وظيفتها بأغراضِ ومقاصدَ مغايرة، وتُحدثُ في الآن نفسه قطيعة مع الواقع بالخلط بين الحقيقي والمزيف، الأصلي والمصطنع، الوقائعي والتخييلي.

ودعا المحاضر إلى تعزيز الترسانة القانونية لحماية حقوق المؤلفين والحقوقِ المجاورة، واتخاذ التدابير الزجرية في حق كل من يعتدي على حقوق الملكية الفكرية بنشر أو تقاسم صور أو أخبارِ مزيفة لإثارة الفتنة والبلبلة بين الناس.

من جهته، تناول الباحث والمترجم والناقد الفني الدكتور فريد الزاهي جانبا مهما من أيقونة الصورة في العصر الرقمي، من خلال انتقالية العيش بالصور إلى العيش فيها، مستحضرا خصائص الزمن الرقمي ومعطياته الواسعة، ناظرا باستبصار وتأمل حضور القراءات عبر المتن في الأنترنيت، والتباساته وتأويلاته، ما يعرض الصورة، يضيف الزاهي، لبتر واستنكاف، كما في أتون بلاغة قرء الكتاب العيني، ممثلا بقصص بورخيس الحكيمة، واستيهامته السوسيونصية للصورة، التي سرعان ما تتعرض للتقويض والحشر الدافعي.

وتساءل الأكاديمي الزاهي حول إمكانية التفكير في الصورة كملاذ، بأي طريقة يمكننا التلبس بالصورة، استعادتها من أعلى اللغة، دون أن يتجاوز تفكيك قدرة التفكير على التقائية الأدب باللغة والعكس صحيح، إن على المستوى السيميائي التداولي، أو حتى عبر الاشتغال باللغة على اللغة.

وطرح الدكتور الزاهي علاقة الصورة بالمجتمع الديني، وتحديدا في أفق نقد تلقي المجتمع الإثنولوجي/ اللاهوتي لمعنى الصورة في العقل الابتداعي، وهو ما ألمح إلى نشوء مرجعية تحجب حرية التفكير في الصورة من الداخل، دون خوف أو ارتكان إلى الإبدال. فالخوف، يقول الزاهي، يحول الصورة في المجتمع الديني إلى اغتراب، كما الصورة البصرية التي تجترح نقاءها المتوهم من الحدود البصرية حين ممارستها.

وأكد المتحدث أن واقع التعاطي مع إيتيقا الصورة في عصرنا المغربي لم يكن ذا اقتبال حداثي منفعل مع التجريب الفني وأدواته الفنية والتقنية، حيث “خرجنا من العمل البصري إلى عيوننا، ولم نخرج للممارسة إلا متأخرين…”، ويضيف مستنتجا أن اقترابية اللغوي بالمرئي ظلت تستنفد هواجسنا دون أن تتبدل في عمقها، وأن اهتمام المغاربة بهذه الهم السوسيولوجي تأخر بشكل كبير عن واقع الحداثة وما بعدها، وأن الفنون في كل هذه المصائر كان أقرب إلى غيمة التفكير كانفلات يجعل من اللوغوس ساحة للانغلاق، وبخاصة في تقويضه لموضوعات الجسد، باعتباره صورة واقعية وشخصية.

أما الباحث والناقد السينمائي الدكتور حمادي كيروم، فقد انفرد بتأويل خاصيات الصورة السينمائية بين المرئي واللامرئي، مستدرجا علامات أفلام السينما، بما هي إنتاج قيمي وليس غيره، “سينما الحياة والجمال وليس اللاسينما”، مستحضرا نموذج السينمائي الروسي اندريه تاركوفسكي، الذي يبني تصوراته ابتداء من “ما بعد الصورة”، لوازع المشاهدة والتأمل، كموقف حركي وبصري صاف.

وأبرز كيروم، من خلال النموذج العالمي ذاك، ثنائية الواقع والخيال في السينما، مشيرا إلى أن ولادة السينما كمبدأ جمالي وإيتيقي جديد يبدأ من إدراك المشاهدة الصادمة، التي تجعل من أيقونة شهرزاد الزمن الحديث، وجها آخر للإنسان المقروء المسموع، بلغة جديدة، يتفاعل معها الجسد، وتنضو إلى افتئات السينما كدلالة على الاكتشاف الزمني، ونبضه الواعد وتخومه غير المجزأة.

واستحضر الباحث كيروم وجها آخر لفلسفة هذه اللحمة الفريدة في عقد الصورة، رائيا جيل دولوز كمحبرة لتماسك سينما الزمن والحركة، من خلال كتابيه “الصورة الحركة” و”الصورة الزمن”، حيث ظل تصنيف السينما بين كلاسيكية تقليدية وحديثة حقيقية. وهو ما يؤطر تأويله لبنائية رؤية المخرج تاركوفسكي في نظريته لقوة ودلالة السينما كلذة بنفس منحة (لذة النص) عند بارت.

واستعاد الأكاديمي حمادي كيروم طفرة التجربة السينمائية في بعدها الإيتيقي، حيث تتشكل الصورة كتوليفة شعرية، أو قصصية، تتجافى بين الذاكرة المعيشية والذاكرة المحتملة، ما يجعل من الرمز أمرا غير مقبول، بل الأجدر، يضيف كيروم، رصد الأشياء كما هي، حيث الشعرية إياها، هي بالتأكيد رؤيا للعالم، فلسفة ملهمة، تنخلق من داخل الشعر ببعده العميق وبإحالة إلى شعر الهايكو الياباني، الذي يدمغ المعرفة بشكلها المائي الصافي ودفقه الكينوني ونبله الخيالي.

واستحضر كيروم فيلم “المرآة” للمخرج الروسي اندريه تاركوفسكي، الذي تم تصميمه على شكل سرد غير خطي، والتي يعود مفهومها الرئيسي إلى عام 1964 وتخضع لنسخ متعددة من نصوص تاركوفسكي وألكسندر ميشرين. وتدور أحداث الفيلم حول ذكريات استرجعها شاعر يحتضر في لحظات مهمة في حياته وفي الثقافة السوفيتية. يجمع الفيلم بين المشاهد المعاصرة وذكريات الطفولة والأحلام ولقطات النشرة الإخبارية. يتأرجح التصوير السينمائي بين الألوان، والأبيض والأسود، والبني الداكن. تمت مقارنة التدفق الفضفاض للصور الأحادية المرئية للفيلم مع تقنية تيار الوعي في الأدب الحديث.

المداخلة الأخيرة، التي ألقاها الباحث والأكاديمي الإعلامي الدكتور مصطفى غلمان، قاربت موضوعة إعلام الصورة ابتداء من عالم السيلولويد إلى الرقمي الجديد، مبرزا التحولات الخطيرة التي صاغت مستقبل تطور الوسائط الرقمية، ما شكل طفرة في نسق التواصل البشري تاريخا وثقافة، مؤكدا أن هذا التطور غير المسبوق تميز بتقارب تكنولوجي فريد، مهد ظهور الإنترنت منذ تسعينيات القرن الماضي الطريق لرقمنة المحتوى، الشيء الذي أتاح إمكانية الوصول والتفاعل التي لم تكن موجودة من قبل. وتجسد منصات التواصل الاجتماعي بمختلف مواقعها واتجاهاتها جسرا مفتوحا لنشر المعلومات في زمن سريع، ما يسهم في تعزيز دور كل فرد كمنشئ للمحتوى.

وأبرز غلمان أن هذا التحول النموذجي لا يعيد تعريف إنتاج الوسائط الإعلامية فحسب، بل إنه يعيد تعريف استقبال الجمهور وتفاعله أيضًا، حيث أصبح بشكل متزايد مشاركًا بدلاً من مجرد مستهلك سلبي. وعلى مر السنوات القليلة الماضية، أدى التقدم التكنولوجي أيضًا إلى إحداث تقدم في طريقة توزيع المحتوى وتحقيق الدخل منه.

وقال الدكتور غلمان إن تنميط مادة الصورة، أو تشكيلها بحسب المعطيات والأهداف المرصودة، توطن ظاهرة التلاعب بالصورة لأغراض التمثل الاستعراضي أو التجميل أو الانحياز لمشروع تخريبي، كثوب بال يعاد تدويره واستعراضه بالشكل المطلوب، الأمر سيكون مروعا كما هو الحال بالنسبة لمشروع المهندس المعماري، مشددا على أن ذلك سيكون قاصما عندما يتم تزيين شيء ما بشكل مصطنع في كتالوج المبيعات. وينبغي الإعلان عن إزالة عيب كبير مثل نسيج مهترئ وباهت، أو إعادة إحياء اللون، أو طلاء ختم قطعة أثاث تم إحياؤها بواسطة الكمبيوتر، أو حتى تنظيمها، لأن الصورة المعدلة تشوه تقدير المشتري.

وأورد في مداخلته أن معالجة الصور الرقمية أيضًا عرفت تطورًا متزايدًا في مجال تخزين الصور الفوتوغرافية وأرشفتها. كما ستسمح قريبًا بالحصول على صور عالية الوضوح ونقلها في بضع ثوانٍ على جانبي الكرة الأرضية. ستتمكن الطابعة في نيوزيلاندا مثلا من تلقي الصور بنفس سرعة الطابعة الفلبينية. كما سيتمكن خبير فني إيطالي مثلا من الحصول على صورة جيدة جدًا من متحف آسيوي في وقت مكالمة هاتفية.

الأخطر، أن تكون معالجة الصور الرقمية جسرا لا نهائيا بين الصورة الحقيقية والصورة المكونة بالكامل بواسطة الكمبيوتر، وهي الصورة التي تسمى “الافتراضية”.

واستحضر غلمان نماذج خطيرة من هذا التحريف، كما هو الأمر بالنسبة للصور التاريخية، لما لها من أثر في ترسيخ معطيات وثائقية أو أرشيفية لثقافة وهوية المجتمع. كما قارب سؤال ما بعد الحقيقة في القضايا المجتمعية المهمة المتعلقة بثقة الجمهور بالمؤسسات الرسمية، بشخصية السياسي أو الإعلامي أو المثقف، كما في واقع الأحداث التي يتم إزاحتها بشكل خطير إلى الخلفية لصالح عدم الثقة ونظريات المؤامرة والإثارة. متسائلا: كيف يمكن للشباب والناشئين أمام عزلتهم الاختيارية القاتلة أن يفرقوا بين الحق وباطل الصورة؟

الندوة العلمية شهدت في ختام فعالياتها تدخلات ونقاشات قيمة، شارك فيها مثقفون وأكاديميون وطلبة، أغنت النقاش وأثارت إشكاليات راهنية عديدة، من أيقونية الصورة، وإعلاميتها ومثاقفاتها، أبنيتها ومرجعياتها وإوالياتها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق