زعيم بلا لجام

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

منذ دخوله الساحة السياسية، لم يكن عبد الإله بنكيران مجرد ناشط حزبي ثم زعيم سياسي، بل ظاهرة لغوية-سياسية، تجسّدت في نبرة مرتفعة، وحضور لافت، وخطاب يراوح بين المزاح والسخرية، بين المباشرة والتلميح، بين المظلومية والبطولة. لكنّ ما جعل الرجل مثيرًا للجدل، ليس فكره أو مشاريعه الإصلاحية، بل لسانه. ذاك اللسان الذي قاده أحيانًا إلى الشعبية، وأحيانًا إلى العزلة، وجعل من كل تصريح له مادةً إعلامية دسمة، وأحيانًا محبطة.

في فلسفة الخطاب، لا تنفصل اللغة عن السلطة. من يتكلم يملك القوة، أو يحاول أن يصنعها بالكلام. وبنكيران، منذ بزوغه، كان يعلم أن امتلاك “السردية الشعبية” أهم من أي برنامج سياسي. كان يعلم أن السيطرة على نغمة الميكروفون قد تطغى على سياسات الاقتصاد والعدالة الاجتماعية. لكنه، بدلاً من أن يبني هذه السردية على الاستيعاب، بنى جزءًا كبيرًا منها على السلاطة: لغة فيها احتقار ضمني للخصوم، تهكم بالضعفاء، وتسخيف للمعارضين، بل أحيانًا مسّ بمؤسسات الدولة نفسها. وهذا النوع من الخطاب يراهن على استثارة العاطفة لا على إقناع العقل.

قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]، وقال أيضًا: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]. إشارات صريحة إلى أن الكلمة ليست مجرد صوت يخرج، بل مسؤولية أخلاقية موصولة بالرقابة الإلهية.

المدهش في تجربة بنكيران أن سلاطة اللسان عنده ليست عفوية كما يدّعي، بل مُدارة بذكاء شعبي. فهو يدرك تمامًا متى “يُضحك”، ومتى “يغضب”، ومتى “يبكي”، ومتى “يهدد” بنبرة الوالد الصارم. لكنّ الفلسفة تضعنا أمام سؤال حاد: هل يمكن للسياسي أن يكون صادقًا وهو يستثمر في سحر الشعبوية؟ هل يستطيع أن يكون مخلصًا لقضايا الناس وهو يختزل معاناتهم في نكتة، أو يدفنها خلف ابتسامة باردة؟

قال النبي ﷺ: “ليس المؤمنُ بالطَّعَّانِ، ولا اللَّعَّانِ، ولا الفاحشِ، ولا البذيءِ” [رواه الترمذي].

وهذا الحديث النبوي يضع حدودًا أخلاقية صارمة لمقام الكلمة، خاصة حين تصدر عن من يملك تأثيرًا عامًا. فالكلمة في موقع السلطة ليست مجرد تعبير، بل تشريع ضمني للسلوك العام، وتطبيع لما قد يكون في الأصل مرفوضًا.

لقد اتخذ بنكيران من “الكلام الصادم” أداة لفرض حضوره في المشهد، لكن الخطورة أن ما يبدو عاديًا في الفن، يصبح كارثيًا في السياسة. لأن الدولة ليست مسرحًا للارتجال، بل بناء يحتاج إلى لغة مسؤولة.

ليس العيب في أن تكون فصيحًا، بل في أن تختزل الفصاحة في التهكم، وأن تعيد تعريف الهيبة السياسية بوصفها “القدرة على الردح”. رجل الدولة الحقيقي لا يحتاج أن يعلو صوته، لأن أفكاره هي التي ترتفع. أما من لا يملك مشروعًا متماسكًا، فلا يجد إلا الميكروفون ليمارس سلطته، فيحوله إلى صاعق، بدل أن يكون منارة.

قال رسول الله ﷺ: “إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ، وأقربِكم مني مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنُكم أخلاقًا، وإنَّ أبغضَكم إليَّ، وأبعدَكم مني مجلسًا يومَ القيامةِ الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون” [رواه الترمذي].

وليس عجبًا أن يكون تحذير القرآن شديدًا في حق من يُضل الناس بالكلام لا بالفعل، فقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهُ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ [البقرة: 204].

وخاتمة القول، إن البلاغة التي تُستخدم للسخرية تُفقد السياسة وقارها، وإن الكاريزما حين تُركّب على الغضب تُنتج وهمًا خطابيًا، لا قيادة حقيقية.

وكما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 70]، فالسداد هو الغاية، لا الصخب.

أخبار ذات صلة

0 تعليق