شمس حارقة تتجاوز 40 درجة مئوية، تزامنت مع بدء توافد أكثر من 1.4 مليون حاج إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج هذا الأسبوع، تتحول السهول المحيطة بأكبر مدينة خيام في العالم بالقرب من المشاعر المقدسة إلى ساحة مواجهة غير مسبوقة بين الجهود الطبية السعودية المكثفة وعدو خفي قاتل هو الإجهاد الحراري.
تأتي الاستعدادات الهائلة بعد كارثة العام الماضي التي راح ضحيتها أكثر من 1300 حاج، معظمهم بسبب درجات حرارة قاربت 52 درجة مئوية، وفقاً لتقارير وكالة الأنباء الفرنسية (فرانس برس).
ذكرى كارثة 2024 تطارد المشاعر المقدسة
كان موسم الحج لعام 2024 بمثابة جرس إنذار صادم للعالم وللمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، ففي وقت سجلت فيه درجات الحرارة مستوى قياسياً بلغ 51.8 درجة مئوية (125 فهرنهايت).
و وفقاً لبيانات وكالة فرانس برس المستندة إلى مصادر رسمية وميدانية، لقي أكثر من 1300 حاج حتفهم، فيما أشارت التحليلات الطبية الأولية إلى أن "الإجهاد الحراري" وضربات الشمس كانت السبب الرئيسي وراء الغالبية العظمى من هذه الوفيات المأساوية، خاصة بين كبار السن وذوي الأمراض المزمنة الذين فاقمت الحرارة الشديدة حالتهم.
هذه الحصيلة المرتفعة سلطت الضوء بشكل قاس على المخاطر المتزايدة التي يشكلها تغير المناخ على التجمعات البشرية الضخمة، لا سيما تلك التي تقام في ظروف قاسية مثل صحراء شبه الجزيرة العربية في فصل الصيف.
الاستعداد لـ"الأسوأ"
في مواجهة هذا التحدي الوجودي لسلامة الحجاج، وبتصريح واضح من وكيل وزارة الصحة السعودية لشؤون الصحة السكانية، الدكتور عبدالله عسيري، لوكالة فرانس برس بأن "التركيز هذا العام ينصبّ على الظروف المرتبطة بالحر، لأن الحج يتزامن مع حرارة شديدة"، أطلقت السلطات السعودية خطة طوارئ طموحة تتسم بالاستباقية والاستعداد لـ"أسوأ سيناريو" ممكن.
تعزيز غير مسبوق للقدرات الطبية
أكد الدكتور عسيري أن "الطاقة الاستيعابية هذا العام زادت بأكثر من 60% مقارنة بالعام الماضي". ويتجلى هذا في توفير أكثر من 700 سرير مخصص خصيصاً لعلاج الحالات الشديدة من الإجهاد الحراري وضربات الشمس، موزعة عبر المرافق الطبية المؤقتة والدائمة.
وفي المقابل تم إنشاء 71 نقطة طبية طارئة جديدة منتشرة بشكل استراتيجي حول المشاعر المقدسة (مِنى، عرفة، مزدلفة). وتهدف هذه النقاط، كما أوضح عسيري، إلى "علاج المرضى ميدانيًا قبل تدهور حالتهم"، مما يقلل الحاجة للنقل ويسمح بالتدخل السريع.
ويأتي مستشفى طوارئ مِنى، الذي وصفه عسيري بأنه "مجهز بالكامل" ولم يستقبل حالات حتى الآن، كأحد أبرز رموز هذه الاستعدادات. وهو واحد من بين 15 مرفقاً طبياً موقتاً يتم تفعيلها سنوياً خلال الحج، لكنه يخضع هذا العام لتطوير وتركيز خاص على معالجة الإصابات الحرارية.
كما جرى تعبئة وتوزيع أكثر من 50 ألف عنصر من الكوادر الصحية والإدارية (أطباء، ممرضين، فنيين، مسعفين، وإداريين) لتغطية كافة المواقع وتقديم الرعاية على مدار الساعة.
هجوم مباشر على الحرارة: تبريد المشاعر
كشف وزير الحج والعمرة السعودي، توفيق الربيعة، عن نشر آلاف المراوح العملاقة المزودة بأنظمة رذاذ الماء البارد (Mist Fans) في المناطق المكشوفة وخارج الخيام. كما تم تركيب أكثر من 400 وحدة تبريد مائية (Water Coolers) لخفض درجات الحرارة المحيطة بشكل فعّال.
وتضمنت الإجراءات المبتكرة إنشاء ممرات مبرّدة خاصة للحجاج، أبرزها ممر جديد بطول أربعة كيلومترات (حوالي 2.5 ميل) يؤدي إلى جبل عرفة، ثاني أيام الحج وأهمها، حيث يقف الحجاج من الظهر حتى الغروب تحت الشمس. هذه الممرات تستخدم تقنيات تبريد أرضية وهواء لخلق مسار أكثر أماناً.
وفي المقابل لا يمكن التحكم في الطقس الخارجي، يواصل المسجد الحرام في مكة الاعتماد على أكبر نظام تبريد في العالم، حيث يتم تنقية هواء التكييف داخله تسع مرات يومياً وفقاً للتلفزيون السعودي الرسمي، مما يوفر ملاذاً باراً للحجاج أثناء الصلاة.
تحذيرات طبية صارمة للحجاج
مع اقتراب يوم عرفة يوم الأربعاء، الذي يتوقع أن تشهد فيه درجات الحرارة ذروتها لتتجاوز 40 مئوية بسهولة، شدد مسؤولو الصحة على خطورة التعرض المباشر لأشعة الشمس. وحذّر الدكتور عسيري صراحة: "ليس على الحجاج البقاء خارج خيمتهم في عرفة، لأنه أمر محفوف بالمخاطر"، داعياً إلى البقاء في الخيام المبرّدة قدر الإمكان خلال ساعات الذروة (بين 11 صباحاً و3 بعد الظهر) والاكتفاء بالوقوف المطلوب شرعاً في حدود الوقت المحدد مع اتخاذ كافة وسائل الوقاية.
وعلى الرغم من هذه التحذيرات والظروف القاسية، يصر العديد من الحجاج على تحمل المشقة، رؤية فيها اختباراً للإيمان وفرصة للأجر. يقول بدر الشريطة، حاج فلسطيني: "كما ترون، نتصبب عرقًا، الحمد لله رب العالمين. الأجر يتطلب مشقّة". بينما يعتبر عبدالمجيد عاطي، القادم من الفلبين، الحرارة "اختبارًا حقيقيًا لأخلاقنا وصبرنا".
لكن قصص التحمل، مثل قصة رباح منصور، الحاج الفلسطيني السبعيني الذي قال "لا يزعجني الحر، فأنا مزارع واعتدت العمل تحت الشمس"، لا تغني عن ضرورة الالتزام بالإرشادات الطبية. فوزارة الصحة تؤكد أنها لا تعتمد على تحمل الحجاج، بل تعمل على خلق بيئة آمنة وتدخل سريع عند الحاجة.
تغير المناخ.. خلفية الأزمة المتصاعدة
تشكل كارثة حج 2024 ومخاوف 2025 نموذجاً صارخاً لتأثير تغير المناخ على الأحداث العالمية الكبرى. فبحسب مرصد "كوبرنيكوس" الأوروبي (Copernicus Climate Change Service)، كان عام 2024 هو العام الأكثر حرارة على مستوى العالم منذ بدء السجلات المناخية الموثوقة في عام 1850.
وتشير دراسات علمية، منها تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، إلى أن موجات الحر الشديدة ووتيرتها ومدتها ستزداد حدة وتكراراً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مما يضع تحديات مستقبلية هائلة على كاهل تنظيم الحج.
التحدي المستمر والأمل في حج آمن
الجهود السعودية هذا العام، من تعزيز طبي هائل إلى استثمارات غير مسبوقة في تقنيات التبريد الخارجي، تعكس إدراكاً عميقاً لخطورة الوضع وإرادة قوية لتفادي تكرار مأساة العام الماضي.
ومع انطلاق الركن الأكبر للحج يوم الأربعاء في عرفة، ستكون هذه الإجراءات تحت الاختبار الأصعب، نجاحها يعني حماية أرواح مئات الآلاف من الوافدين لأداء فريضة دينية، وفشلها في الحد من الإصابات والوفيات المرتبطة بالحرارة سيكون بمثابة صفعة قاسية في ظل أزمة مناخية عالمية تتفاقم.
وتظل التوعية المستمرة للحجاج بضرورة تجنب التعرض غير الضروري للشمس، وشرب كميات وفيرة من المياه، واللجوء الفوري إلى المرافق الطبية عند الشعور بأي أعراض (دوخة، غثيان، صداع شديد، توقف العرق)، هي الخط الدفاعي الأخير والأهم في هذه المعركة ضد الحرارة القاتلة.
0 تعليق