بوصوف: واقعية مقترح الحكم الذاتي في الصحراء تهزم الشعارات الجوفاء

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في وقت تتغير موازين العلاقات الدولية، وتتقلص هوامش المناورة للكيانات غير المعترف بها، تعيش جبهة البوليساريو حالة ارتباك داخلي عميق، تزداد حدّته مع تراجع الدعم الدولي واهتزاز ثقة المحتضن الجزائري بسبب أزماته المتلاحقة.

بعد أكثر من خمسين سنة من الترويج لخطاب تقرير المصير مازال الآلاف من الصحراويين محتجزين في مخيمات تندوف جنوبي الجزائر، حيث لا أفق واضح، ولا كرامة إنسانية، ولا تحققٌ لأي حلم وعدت به الجبهة. لقد تحولت تلك المخيمات إلى مناطق عزلة وظلم إنساني، يعيش فيها السكان على المساعدات الدولية التي لم تعد مضمونة الاستمرار، خاصة في ظل تقلب السياسات العالمية، كما شهدنا مؤخرًا في قرارات الولايات المتحدة بوقف أو تقليص مساعداتها في عدة مناطق عبر العالم، ما ينذر بتحول جذري في مقاربة قضايا النزاعات المفتعلة.

إن جبهة تُستعمل كأداة إيديولوجية في يد نظام، وتُستخدم لأغراض جيو-إستراتيجية لا علاقة لها بقضية السكان ولا بحقوق الإنسان، لا يمكنها أن تقنع العالم بأنها تسعى فعلًا إلى حل سياسي، خصوصًا أن أطروحتها تصطدم برفض واقعي دولي متزايد. العالم لا يحتمل كيانًا مسلحًا خارج الشرعية، وهو يتعامل اليوم بمنطق البراغماتية التي تضع الاستقرار والتنمية في صدارة الأولويات، وليس المشاريع الوهمية ذات الطابع الانفصالي.

وفي مقابل هذا التراجع يواصل المغرب ترسيخ سيادته على أقاليمه الجنوبية من خلال نموذج تنموي متكامل يستند إلى شراكة فعالة بين الدولة والساكنة المحلية. فقد تجاوزت استثمارات الدولة المغربية في الأقاليم الجنوبية، منذ إطلاق النموذج التنموي الخاص بها سنة 2015، ما مجموعه 85 مليار درهم، وركزت على البنيات التحتية، والمشاريع الاقتصادية الكبرى، ومراكز التكوين، والطاقات المتجددة، ما جعل الصحراء المغربية فضاءً واعدًا للاستثمار والنمو وممرًا إستراتيجيًا نحو العمق الإفريقي. وقد أكد المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (CESE) في تقاريره الدورية أن هذه المشاريع لم تكن مجرد شعارات أو أرقام معلنة، بل تحققت على الأرض، وأسهمت في تحسين مؤشرات التنمية البشرية ورفع مؤشرات الشغل والتعليم والصحة في الأقاليم الجنوبية.

هذا التحول التنموي رافقه انخراط واسع للساكنة الصحراوية في الحياة السياسية والمؤسساتية؛ فالمشاركة في الانتخابات بالأقاليم الجنوبية تفوق نظيراتها في باقي جهات المملكة، وقد أفرزت تمثيلية حقيقية لأبناء الصحراء في كل المؤسسات المنتخبة، من الجماعات الترابية إلى البرلمان بغرفتيه. وقد انتُخب محمد حمدي ولد الرشيد، أحد أبرز الأطر الصحراوية، رئيسًا لمجلس النواب، في ما يشكل دلالة سياسية قوية على انخراط الصحراويين في قيادة المؤسسات الوطنية من داخل الدولة وليس خارجها. كما يترأس أبناء الصحراء جهات العيون-الساقية الحمراء والداخلة-وادي الذهب، وتضطلع شخصيات وازنة منهم بأدوار مهمة في السلك الدبلوماسي، وفي المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، وفي مختلف مستويات القرار والتخطيط.

وعلى المستوى الدولي شهدت السنوات الأخيرة دعمًا واسعًا لمبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب سنة 2007، ووصفتها العديد من الدول الكبرى بأنها الأساس الوحيد لحل سياسي واقعي وذي مصداقية. فقد أكدت الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، والمملكة المتحدة، على دعمها هذا المقترح، كما أيدته إسبانيا، المستعمر السابق للمنطقة، التي اعتبرت الحكم الذاتي حلاً جديًا وموثوقًا. يضاف إلى ذلك فتح أكثر من ثلاثين دولة قنصليات لها في مدينتي العيون والداخلة، في اعتراف ميداني بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، ما يجعل أطروحة الانفصال أكثر عزلة وضعفًا من أي وقت مضى.

أما من حيث السوابق التاريخية المقارنة فإن مراجعة تجارب الحركات الانفصالية المسلحة في مناطق أخرى من العالم تؤكد أن التمادي في العمل المسلح والانغلاق الأيديولوجي يؤدي في النهاية إلى الانهيار أو الذوبان داخل الدولة الوطنية؛ فحزب العمال الكردستاني في تركيا، بعد عقود من الصراع، أعلن عن تجميد أنشطته وفتح الباب أمام الحوار، كما انتهت حركة “إيتا” الانفصالية في إسبانيا إلى حل نفسها رسميًا، وأغلقت ملف العنف السياسي، لتفسح المجال أمام العمل الديمقراطي. وفي أيرلندا الشمالية اختارت منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي (IRA) إنهاء العمل المسلح والانخراط في التسوية السياسية، بعد سنوات من المواجهة مع الدولة البريطانية. فهل يحتاج قادة البوليساريو إلى مزيد من الوقت ليعوا دروس التاريخ، أم إن الزمن قد خانهم فعلًا، وأصبح من الحكمة أن يبحثوا عن مخرج مشرف قبل أن تبتلعهم رمال تندوف؟.

إن اللحظة السياسية الراهنة تفرض على كل الأطراف التحلي بالواقعية والمسؤولية، خصوصًا أن المغرب لم يغلق يومًا باب العودة في وجه أبنائه، بل أطلق منذ سنوات نداءات متكررة للعائدين، وضمن لهم الإدماج في نسيج المجتمع من دون إقصاء أو انتقام، وفق مقاربة ترتكز على الإنصاف والكرامة وفتح آفاق المشاركة في كل المستويات. وقد أثبتت التجربة أن العديد من الأطر الصحراوية التي عادت إلى أرض الوطن اندمجت بنجاح، وأصبحت فاعلًا في الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهذا ما يؤكده حضورها القوي داخل المؤسسات المنتخبة والمجالس الترابية ومواقع المسؤولية، فضلًا عن مساهماتها الدبلوماسية والحقوقية والثقافية دفاعًا عن مغربية الصحراء من مختلف المنابر الدولية.

لقد أصبح جليًا أن مشروع الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب لا يشكل فقط مخرجًا من نزاع سياسي طال أمده، بل هو أساس لتسوية عادلة وواقعية تحفظ كرامة الجميع وتضع حدًا لمعاناة آلاف الأشخاص المحتجزين في أوضاع لا إنسانية بمخيمات تندوف. وإذا كانت الشرعية الدولية بدأت تميل بوضوح إلى هذا الطرح فإن الواجب الأخلاقي والإنساني يفرض على من تبقى من قيادة الجبهة أن تراجع حساباتها، وتغلب منطق الحوار والمصلحة الجماعية على منطق الشعارات المتجاوزة التي لم تعد تقنع حتى أبناء المخيمات أنفسهم.

المسؤولية اليوم مزدوجة: مسؤولية إنسانية تجاه ضحايا الانتظار الطويل في تندوف، ومسؤولية سياسية تجاه أفق الحل الذي بدأ يفرض نفسه بإجماع دولي لا يمكن إنكاره. وبين هذا وذاك يظل صوت الوطن مفتوحًا، لا تُغلق أبوابه أبدًا في وجه من عاد إليه مؤمنًا بأن اللحظة التاريخية تقتضي تجاوز الانقسام والمزايدات، والانخراط الجماعي في بناء مستقبل مشترك تتسع فيه الصحراء المغربية لكل أبنائها تحت سقف السيادة الوطنية، في كنف الأمن والاستقرار والتنمية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق