إذا كنت من أولئك الذين استوقفهم يومًا الكتاب الشيق والمتميز «طه حسين: من الأزهر إلى السوربون»، فلعلك تذكر تلك المتعة الخاصة التي يمنحها كاتب يُفكّر قبل أن يكتب، ويصغي إلى ما وراء السيرة.
في هذا العمل، لم يكن الدكتور عبد الرشيد محمودي مجرد مؤرخ لحياة عميد الأدب العربي، بل محللًا لمراحل تحوّله الفكري، متتبعًا أثر الرحلة من الأزهر، حيث يغلب التلقين والجمود، إلى جامعة السوربون، حيث العقل فقط هو البوصلة الوحيدة.
الكتاب قدّم صورة مركّبة للدكتور طه حسين؛ لا كرمز أكاديمي، بل كإنسان تقاطع فيه الشرق بالغرب، واليقين بالشك، والموروث بالحلم. وقد بدا واضحًا أن مؤلفه الذكي لا يكتب عن الدكتور طه حسين كموضوع جامعي، بل كسؤال مفتوح عن معنى النور في ثقافتنا، والإرادة في ارتقائنا، والفكر في حياتنا.
ورغم أن الدكتور عبد الرشيد محمودي يُعدّ من أبرز الأكاديميين المصريين، إذ إنه حاصل على الدكتوراه من جامعة أكسفورد، وأستاذ الفلسفة والأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، ومترجم لنصوص الفيلسوف ديكارت ـ الذي يُلقب بـ«أبو الفلسفة الحديثة» ـ والفيلسوف برتراند راسل، مؤسس الفلسفة التحليلية، لكن ظل اسمه بعيدًا عن دوائر الرواية والنقد الأدبي؛ فهو لم يكن من الكُتّاب الذين يظهرون في الإعلام، ولا من الذين تُطاردهم الكاميرات.
ثم جاءت روايته «بعد القهوة»، وكانت مفاجأة من نوع خاص؛ أول تجربة روائية له، وقد كتبها بعد السبعين من عمره. لكنها، بحق، بديعة أكثر مما يُصنّف: رواية ذاكرة حميمة، تسكن في عمق الطفولة ودهشة الجنوب.. رواية غنية، دافئة، مكتوبة بحسّ من يعرف الحكاية ولا يستعجلها؛ ليست رواية تقليدية بالأحداث، بل رواية ذاكرة طفل في قرية صعيدية، يرى العالم بعينين تتسعان للدهشة والخرافة.
ولكي أعرّفك، عزيزي القارئ، على أسلوب الكاتب مباشرة، أختار لك هذا المقطع من بداية الرواية، حيث كتب تحت عنوان "قاتلة الذئب": تقلب خليل أمام دكانه المواجه للترعة، وهشّ ذبابة تلح على أنفه، وعاد إلى النوم..النسيم يلعب بذيل جلبابه، كأنما يريد أن يرفعه ويطير به.. ولم يفسد تلك الراحة إلا ضجة، صراخ وضحك ونباح، من جهة الترعة. هناك مجموعة من الصبية يعبرون الترعة عدوًا من «البر دكّه»، ومعهم كلب أسود يحتج على اندفاعهم نحو الماء بدونه... كانوا يريدون الإفلات بسرعة بما غنموا من أرض الصعايدة: البلح، والتين الشوكي، والبوص..انتفض خليل عندما بلغته أصوات الصبية، وتبدد عنه النوم تمامًا عندما جاء صوت أذان العصر من الطرف الأقصى للقرية.. شعر عندئذ كما لو أن يدًا قوية تهزه كي ينهض ويذهب إلى الجامع لصلاة العصر حاضرًا، غير أنه لم ينهض..«أبناء العفاريت» في حالة عظيمة من النشاط، في حين أن العفاريت عند انتهاء ساعة الظهيرة الحارقة تُصاب بالفزع وتهرع إلى مخابئها، وهو لا يشعر برغبة في وضوء أو صلاة بعد ما حدث.. يتمنى لو أنه نام فلم يستيقظ، لا يشعر برغبة في الكلام، أي كلام...ولم يعد لدى زبائنه ما يقولون له؛ يأخذ الواحد منهم ما يريد وينصرف على الفور.. لم يعد أحد يأتي ليفترش الأرض أمام الدكان للعب الكوتشينة وشرب الشاي وتدخين المعسل.. انتهى كل ذلك، وخيرًا فعلوا..ولكنه يرى في عيون الناس سؤالًا واحدًا - عن أخته - لا يجرؤ أحد على النطق به: «فين راحت زكية؟» وهو نفسه لا يستطيع أن يواجه أحدًا..كلما جاء زبون طأطأ رأسه - هو الذي يُخشى بأسه - أصبح مكسورًا تحت وطأة الشعور بالعار، والعجز عن عمل شيء. «وإيه فايدة الدكان والبيع والشراء لما الواحد مش جادر يكلم حد؟ مش أحسن الواحد يجعد في البيت وما يوريش وشه لحد؟»..
وعندما نهض أخيرًا ليغلق الدكان، تساءل:«وإيه فايدة الجعاد في البيت؟ طيب أروح فين يعني؟ ما فيش غير إبراهيم أبو حسين».. ومرّ بنفيسة. كانت العجوز أمام بيتها تطارد دجاجاتها بمقشة - قنو نخلة جاف - لتبييتها... ليس من عادتها أن تفعل ذلك قبل غروب الشمس، ولكنها قررت في هذا اليوم أن تُبكر... ومرّ بها خليل، فأشاح بوجهه عنها ولم يُحيّها.. أصبح يكرهها، لأن أخته تتردد على بيتها وتخدمها مجانًا.
نادته نفيسة: «سلامتك يا خليل»، فلم يرد. وبعد أن ابتعد، قالت: «حملك تقيل يا ولدي. الله يكون في عونك يا حبيبي». ومع ذلك، فقد حزّ في نفسها أنه تجاهلها؛ إنها لا تستحق منه ذلك.. ما حدث، حدث، ولا ذنب لها فيه..
منذ قليل، مرّ بها مدحت مع كلبه ورفاقه، جاءوا من الضفة الأخرى للترعة، يشهرون عصيًا من البوص، فنادته: «تعال يا حبة قلبي، هات بوسة لستك يا حبيبي»؛ لكنه توقف ليقول بأنفة: «آني ما ببوسشي العواجيز»!
قالت: «يا واد، تعال خليك حنين، دا أنا ستك حبيبتك».. فأجاب: «لما تخلعي شنفك!».. وهزت رأسها: «المفعوص، سنه خمس سنين؛ لكن تقول خلفة عفاريت؟ الله يرحم أمك وأبوك يا مدحت». وتنهدت: «لكن نرجع ونقول: ومين بيحب العواجيز؟».
لقد حصلت رواية «بعد القهوة» على جائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع الآداب لعام 2014، وهي جائزة مرموقة، جديرة بكاتب مبدع.
نعم، لقد جاء الدكتور عبد الرشيد محمودي متأخرًا إلى الرواية، لكنه جاء عميقًا، هادئًا، وواثقًا من نبرة صوته. ولم تكن «بعد القهوة» طريقه إلى الشهرة فحسب، بل كانت طريقه إلى نفسه أولًا، وأيضًا إلى قلوب القرّاء.
الأسبوع القادم باذن الله أكمل قراءة الرواية الممتعة والشيقة «بعد القهوة»
0 تعليق