في خضم التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط، حيث تُحكم الولايات المتحدة قبضتها على إيران بالعقوبات والتهديدات العسكرية، يبرز التساؤل المُلِح: هل تتدخل الصين لإنقاذ إيران؟
هذا ليس مجرد تساؤل افتراضي، بل هو محور اهتمام الدوائر الدبلوماسية والإعلامية، خاصة مع ورود أنباء عن إرسال واشنطن مبعوثين لاختبار موقف بكين. إن فهم الدور الصيني يتطلب الغوص عميقًا في تعقيدات دبلوماسيتها التي تُوازن بدقة بين مصالحها المتعددة.
في هذه الورقة، نستعرض رؤيتنا من خلال تحليل معمق للمنظومة الصينية الشاملة، بما في ذلك أنظمتها القانونية والقضائية والإعلامية، إلى جانب مجالات إدارة المرافق العامة. هدفنا هو إلقاء الضوء على فلسفة وهندسة الدبلوماسية الصينية من منظور الأمن القومي الصيني نفسه. هذا التحليل يهدف إلى تزويد صناع القرار في الأمن القومي العربي بلمحات أساسية عن هذه الهندسة الفريدة، ليتسنى لهم التعرف على صعود التنين الصيني.
بكين في الميزان: بين الشراكة الاقتصادية والضغط الجيوسياسي
تُعد العلاقة بين الصين وإيران نسيجًا معقدًا من المصالح الاقتصادية والاستراتيجية. بالنسبة لبكين، تُمثل إيران موردًا حيويًا للنفط والغاز، وهو شريان حياة لاقتصادها المتنامي. تاريخيًا، ظلت الصين المستورد الأكبر للنفط الإيراني، حتى في أحلك أوقات العقوبات الغربية، مستفيدة من آليات التجارة غير الرسمية التي حافظت على تدفق هذه الموارد الحيوية. اتفاقية التعاون الشاملة التي تمتد لخمسة وعشرين عامًا بين البلدين، والتي تُغطي الطاقة والبنية التحتية والقطاع العسكري، هي دليل راسخ على عمق هذه الشراكة، وتنظر إليها طهران كـ"عامل استقرار" في مواجهة الضغوط الغربية.
ومع ذلك، فإن هذه الشراكة ليست بلا قيود. الصين ليست مستعدة للتضحية بعلاقاتها الاقتصادية الهائلة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أجل إيران. حجم التجارة السنوي بين الصين والغرب يفوق بكثير نظيره مع إيران، مما يُشير إلى أن أي دعم صريح أو واسع النطاق لإيران قد يُعرض الشركات الصينية لعقوبات أمريكية قاسية، على غرار ما حدث مع شركات مثل هواوي. هذا التوازن الدقيق يُجبر الصين على رقصة دبلوماسية معقدة، حيث تُقدم الدعم دون أن تُعلن التحدي الصريح.
عقيدة "عدم التدخل": سلاح الصين السري في الشرق الأوسط
تُعد مبادئ الدبلوماسية الصينية الراسخة حجر الزاوية في تحديد موقفها من الأزمة الإيرانية. عقيدة "عدم التدخل في الشؤون الداخلية" و"التنمية السلمية" تُشكلان بوصلة السياسة الخارجية لبكين. هذا المبدأ ليس مجرد شعار، بل هو استراتيجية عملية تُمكن الصين من تجنب الانخراط المباشر في النزاعات العسكرية، مع الحفاظ على قنوات التأثير الدبلوماسي.
في سياق الشرق الأوسط، أظهرت الصين تفضيلها للوساطة والحوار بدلًا من التدخل العسكري المباشر. لم تُشارك بكين بشكل مباشر في حروب الخليج أو العراق، بل اختارت مراقبة الوضع من بعيد، وتُركز على دعوة الأطراف لضبط النفس وحل النزاعات سلميًا. على الرغم من دعمها للاتفاق النووي الإيراني ومعارضتها للعقوبات الأحادية الجانب في الأمم المتحدة، إلا أن نبرتها كانت دائمًا مقيدة وأفعالها محدودة، مُفضلة عدم التصعيد المباشر مع القوى الغربية. هذا الموقف يعكس جوهر الدبلوماسية الصينية: تعظيم المصالح الذاتية دون الانحياز الكامل لأي طرف.
الأبعاد الاستراتيجية: الحزام والطريق وأمن الصين الإقليمي:
إلى جانب المصالح الاقتصادية، تكتسب إيران أهمية استراتيجية كبيرة لبكين كـ نقطة محورية في مبادرة "الحزام والطريق". تُمثل إيران جسرًا يربط آسيا الوسطى بالشرق الأوسط، مما يُعزز وصول الصين إلى الأسواق والطرق التجارية في المنطقة. كما تتشارك الصين وإيران مصالح في مجالات متعددة، لا سيما أن إيران تُعد دولة مراقبة في منظمة شنغهاي للتعاون.
ومع ذلك، يجب الإشارة إلى أن الأولويات الاستراتيجية الصينية لا تزال مُنصبة بشكل كبير على منطقة آسيا والمحيط الهادئ. استقرار بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان يحظيان بأهمية قصوى لبكين، وأي انخراط عسكري كبير في الشرق الأوسط قد يُشتت انتباهها عن هذه الأهداف الأساسية ويُعرضها لمخاطر غير ضرورية. لذا، فإن الصين لا تُخطط لفتح ساحة معركة ثانية في الخليج، بل تُفضل الحفاظ على وجود عسكري محدود يقتصر على مهام حفظ السلام ومكافحة القرصنة.
استراتيجية الصين المتوقعة: "التدخل المحدود والحذر الشديد"
بناءً على هذا التحليل، يُرجح أن الصين ستتبنى استراتيجية "التدخل المحدود والحذر الشديد" في الأزمة الإيرانية. يمكن تلخيص هذه الاستراتيجية في عدة نقاط:
- دعم اقتصادي مُستدام ولكن غير مُتوسع: ستُواصل الصين شراء النفط الخام الإيراني وتقديم الدعم في مشاريع البنية التحتية ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، لكنها لن تُزيد حجم هذه الأنشطة بشكل كبير لتجنب تجاوز "الخط الأحمر" الأمريكي. سيكون التقدم في بعض المشاريع بطيئًا ومتعمدًا لتجنب استفزاز الغرب.
- دبلوماسية الوساطة بدلًا من المواجهة: في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة، ستُواصل الصين الدعوة إلى ضبط النفس ودعم استمرار الاتفاق النووي الإيراني. ومع ذلك، لن تُصعّد من خطابها ضد الولايات المتحدة ولن تستخدم حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن بطريقة تُهدد بتصعيد الموقف بشكل مباشر.
- الحفاظ على مسافة عسكرية: لن تُرسل الصين قوات عسكرية إلى إيران، ولن تُزودها بأسلحة تُشكل تهديدًا استراتيجيًا للولايات المتحدة أو حلفائها في المنطقة.
جوهر هذه الاستراتيجية هو "التوازن": الحفاظ على تعاونها مع إيران، تجنب الصراع المباشر مع الولايات المتحدة، والحفاظ على نفوذها في الشرق الأوسط. هذه الدبلوماسية، رغم أنها قد تبدو مترددة، تُحقق أقصى قدر من المصالح الصينية طويلة المدى.
الصين كلاعب محوري
في النهاية، تُبرهن تحركات الولايات المتحدة لاختبار موقف الصين على الأهمية المتزايدة لبكين كقوة عالمية. ففي عام 2025، لم تعد الصين مجرد "مصنع عالمي"، بل لاعبًا محوريًا قادرًا على التأثير في مسار الصراعات الدولية. في الأزمة الأمريكية-الإيرانية، قد لا تكون الصين "البطل" الذي يُنقذ إيران بالكامل، ولكنها بالتأكيد "الدور الداعم" الذي يُحدد اتجاه الأحداث.
لا يعتمد مصير إيران بالكامل على الصين، ولكن كل خطوة تتخذها بكين تُضيف متغيرًا جديدًا لهذه الأزمة المعقدة. فمن بكين إلى طهران، ومن واشنطن إلى الخليج، رقعة الشطرنج العالمية مُعدّة بالفعل، وحيثما تختار الصين وضع أحجارها، سيُختبر ليس فقط حكمتها، بل أيضًا عزمها على تحقيق مصالحها في عالم دائم التغير.
تساؤل مستقبلي: هل يستمر التنين في رقصة الحياد؟
يطرح هذا النهج الدبلوماسي الصيني، المتجذر في "مبادئ الدبلوماسية الصينية الراسخة" وعقيدة "عدم التدخل"، سؤالًا جوهريًا حول المستقبل. هل سيظل هذا الحياد العسكري، المدفوع بحماية المصالح الاقتصادية، هو المنهج الأبدي للدبلوماسية الصينية؟
أم أن ما نراه اليوم هو مجرد تأجيل للمواجهة؟
فباعتبارها قوة عظمى صاعدة، تمتلك الصين القدرة على التحدي بسلاحين فاعلين: القوة الاقتصادية والعسكرية، في مواجهة "غطرسة القوة الغربية".
يظل التساؤل قائمًا:
- إلى متى سيستمر التنين في رقصة الحياد، ومتى قد يختار أن يُظهر مخالبه كاملة على الساحة الدولية؟
- هل يمكن القول بأن التنين ينتظر الفرصة الاستراتيجية لانتصار مؤكد في حالة المواجهة؟
نعتقد أن فكرة "الانتصار المؤكد" في أي مواجهة بين قوى عظمى هي فكرة خطيرة وربما غير واقعية في عالم اليوم المعقد. حتى أقوى الدول لا يمكنها ضمان انتصار مؤكد بدون تكاليف باهظة وغير متوقعة. لذا، فإن "التنين" قد لا ينتظر انتصارًا مؤكدًا بنسبة 100%، بل قد ينتظر "فرصة استراتيجية" حيث تكون الكلفة مقبولة والمخاطر محسوبة، أو حيث يكون البديل (عدم التحرك) أكثر تكلفة على المدى الطويل.
وختاما، يمكننا القول أن "وقت النضوج" للتنين قد يكون مزيجًا معقدًا من هذه العوامل، وليس مجرد نقطة زمنية محددة. إنه يتعلق بالثقة في القدرة الشاملة على تحقيق الأهداف الاستراتيجية بأقل قدر من المخاطر، وفي سياق عالمي متغير باستمرار.
ويظل التساؤل مفتوحًا للمستقبل هل "الوقت" قد اقترب بالفعل، أم لا يزال التنين الصيني يفضل استراتيجية "إخفاء القدرات وانتظار الوقت المناسب" لفترة أطول؟
سؤال جوهري للمستقبل العربي: كيف نحمي أمننا القومي؟
إن ما يعنينا في هذا المجال، ليس أمريكا وليس الصين أو غيرهما، إنما يعنينا أمننا القومي العربي وكرامتنا كعرب، ففي سياق عالمي متغير باستمرار، يظل السؤال الجوهري الذي يدور في أذهان كل مواطن عربي هو: كيف نحمي أمننا القومي العربي من أطماع القوى العظمى، حاليًا ومستقبلًا؟
نعتقد أن المستقبل يحمل الكثير من التحديات، لكن تحقيق الأمن القومي العربي يتطلب استقلالًا حقيقيًا وبناءً متكاملًا لمنظومتنا التقنية والصناعية والزراعية. هذا لن يتأتى إلا من خلال تكامل مصالح العالم العربي وبنية تحتية متصلة بين بلداننا من طرق وخطوط سكك حديدية متصلة ومشروعات تكنولوجية وصناعية مشتركة وتحقيق الوحدة الدبلوماسية والاقتصادية، وصولًا في نهاية الأمر إلى جيش عربي موحد. هذه الوحدة هي السبيل الوحيد لمواجهة أطماع الغرب والشرق. فالأمن القومي العربي لا يُبنى بالكلام وحده، وإنما بـالبناء والتنمية والعمل الجاد.ففي عالم لا يحترم إلا الأقوياء، يجب أن تكون بلداننا العربية قوية أولًا لتأمن غدر وأطماع عالم القرصنة وجيوش قراصنة الظلال في البحار المظلمة. هكذا تفعل الصين، فهل لنا أن ندرس تجربة التنين؟.
0 تعليق