جمال رشدي يكتب: الزيارة الوطنية الرعوية لقداسة البابا إلى أوروبا

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في لحظة بالغة الأهمية من تاريخ الوطن والكنيسة القبطية الأرثوذكسية، تأتي الجولة الرعوية التي يقوم بها قداسة البابا تواضروس الثاني إلى عدد من الدول الأوروبية، وفي مقدمتها بولندا ورومانيا، ضمن زيارة تشمل إيبارشيات وسط أوروبا، لتجسد بوضوح الدور الوطني الذي تلعبه الكنيسة المصرية خارج حدود الوطن، وتؤكد من جديد أن صوت الكنيسة القبطية في الخارج هو صدى لوجدان وضمير الوطن في الداخل.

منذ توليه الكرسي البابوي في نوفمبر 2012، وُضعت على كاهل قداسة البابا أعباء جسام، خاصة مع ما شهدته مصر من تحولات كبرى بعد ثورة 25 يناير 2011. فقد جاء توليه في وقت كانت فيه البلاد تعاني من اضطراب سياسي واجتماعي شديد، وتصاعد في خطاب الكراهية والطائفية، وصعود قوى متطرفة أرادت تمزيق نسيج الدولة الوطنية. ومع ذلك، وقف البابا تواضروس شامخًا، صلبًا، مدافعًا عن مصر وهويتها، وعن الكنيسة باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من بنيان الوطن.

وقد تجلى هذا الموقف الوطني بوضوح خلال ثورة 30 يونيو 2013، عندما أعلن قداسة البابا دعمه الكامل لإرادة الشعب المصري في استرداد دولته من جماعة اختطفت السلطة لصالح مشروع طائفي. ووقف إلى جانب رموز الدولة والكنيسة والأزهر والجيش، في لحظة تاريخية عكست وحدة الصف الوطني. وبكلماته التي سجلها التاريخ: "خريطة الطريق تمثل بداية مرحلة جديدة لبناء مجتمع لا يُقصى فيه أحد". حمل قداسته رؤية الكنيسة للدولة المدنية الجامعة، رافضًا الانزلاق إلى صدام أو انتقام، مؤمنًا بأن الوطن فوق الجميع.

ومع ما تبع تلك المرحلة من تحديات، وفي مقدمتها الاعتداءات الممنهجة على الكنائس في أعقاب فض اعتصامي رابعة والنهضة، أصر البابا على التمسك بالموقف الوطني، ورفضه لأي دعوات للانتقام، واضعًا نصب عينيه سلامة الوطن واستقراره قبل كل شيء. لقد أثبتت الكنيسة القبطية في عهده أنها لا تتحصن خلف الجدران، بل تخرج إلى الميدان، وتشارك في صياغة وعي وطني حقيقي.

ولم يغب هذا الوعي الوطني عن جولاته الخارجية، التي تجاوزت 20 زيارة دولية رعوية حتى الآن، شملت العديد من الدول الأوروبية والأمريكية، حيث يحرص خلالها على لقاء الجاليات القبطية، وفي ذات الوقت، تقديم صورة حقيقية لمصر الحديثة أمام الإعلام وصناع القرار في الخارج. ففي تصريح حديث له خلال زيارته إلى رومانيا، قال: "نحن 15 مليون قبطي نعيش مع إخوتنا المسلمين في وطن واحد، تجمعنا محبة حقيقية، ونعمل معًا من أجل سلام المجتمع". تلك الكلمات حملت دلالات عميقة، وردت على حملات التشويه التي تقودها أجهزة مخابرات أجنبية، مدعومة ببعض العناصر القبطية في الخارج، والتي تحاول تسويق رواية زائفة عن اضطهاد الأقباط.

وللأسف، أن بعض تلك الأصوات التي تقيم بالخارج اختارت أن تكون جزءًا من آلة التحريض، مدفوعة بأجندات مشبوهة، دون إدراك أنها تخدم مشاريع أكبر تستهدف المنطقة كلها، وتلتقي موضوعيًا مع الدور الطائفي لجماعة الإخوان الإرهابية، التي لم تتوقف عن توظيف أي حادث عابر لإشعال الفتنة، كما حدث في قضية الطفل ياسين، التي حاولت الجماعة تضخيمها وتحويلها إلى أزمة طائفية، عبر تحريض إعلامي وتجمهر أمام المحكمة، في مشهد يذكّرنا بما فعلته من قبل أمام المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامي.

وهنا تبرز الحقيقة الأعمق: فاستهداف الكنيسة القبطية، وتشويه صورتها، ومحاولة اختراق جبهتها من الخارج، ليست أحداثًا متفرقة أو عابرة، بل جزء من مخطط أشمل يُعرف بـ"خطة الشرق الأوسط الجديد"، والتي تستهدف إعادة رسم خرائط المنطقة على أسس طائفية وعرقية، من خلال تفريغ الشرق الأوسط من مسيحييه الأصليين، وتدمير المكون الديني الأصيل الذي يمثل ضمانة التنوع والتوازن الحضاري.

وفي قلب هذا المخطط، تقف الكنيسة القبطية كـ"قوة صلبة" عصيّة على الاقتحام أو الانكسار. فهي ليست فقط أكبر كنائس الشرق، بل تمثل الحصن الروحي الأكبر الذي تتحطم عليه أوهام الصهيونية المسيحية الغربية وأذرعها البروتستانتية المتطرفة، التي تسعى لفرض أجندة دينية مشوهة باسم الحرية الدينية. إنهم يدركون جيدًا أن الكنيسة القبطية ليست مجرد مؤسسة دينية، بل كيان وطني وروحي عميق الجذور، يدين له الشرق كله بفضل الحفاظ على هوية المسيحية الشرقية منذ القرون الأولى.

ومن هنا، فإن تقدير القيادة السياسية المصرية، وعلى رأسها الرئيس عبدالفتاح السيسي، لقداسة البابا تواضروس لم يأت من فراغ، بل من إدراك عميق لدوره في حماية النسيج الوطني، وتماسك المجتمع، ومواجهة المخططات العابثة بوعي، وهدوء، وثقة. وقد عبّر الرئيس في أكثر من مناسبة عن تقديره العلني لقداسته، واصفًا إياه بأنه "رجل دين وطني من طراز فريد"، كان له دور محوري في أصعب اللحظات التي مرت بها الدولة المصرية.

لقد بات واضحًا اليوم أن زيارة قداسة البابا إلى أوروبا ليست مجرد جولة رعوية، بل هي رسالة سياسية ووطنية، تؤكد أن مصر واحدة، وأن الكنيسة القبطية، كعادتها عبر التاريخ، في طليعة المدافعين عن وحدة الوطن وسلامه الاجتماعي. ومن هنا، فإننا نناشد الدولة المصرية أن تبقى على يقظتها، وأن تضرب بيد القانون كل من تسوّل له نفسه المتاجرة بالفتنة أو بث الأكاذيب، فالوطن لا يحتمل التهاون، وتماسكه هو السد المنيع في وجه كل المؤامرات.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق