معهد بحثي يتولى تشريح "الدرس التاريخي في الجامعة المغربية"

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

حفرٌ في “تحديات الدرس التاريخي بالجامعة المغربية” يتكلّف به، على مدى يومين (الخميس والجمعة)، الملتقى السنوي الأول للمعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، التابع لأكاديمية المملكة المغربية، بتعاون مع شعبة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. ويشارك في اللقاء رؤساء شعب التاريخ، ومنسقو مسالك الإجازة والماستر وأساتذة التخصص في مختلف جامعات المغرب “للانكباب على رصد الواقع الراهن للدرس، وكذلك الممارسات المرتبطة به”.

المعرفة والحاجة المجتمعية

عبد الجليل الحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، اعتبر أن موضوع الدرس التاريخي في الجامعة المغربية “يحظى بأهمية بالغة، بوصفه مادة علمية تساعد على فهم الامتدادات الزمنية التي صاغت الهوية المغربية، ويعرّف الأجيال الجديدة بجذورها الحضارية ومسارات تشكل كيانها”، مبرزا أن “من خلاله، يدرك الطالب أن الحاضر ليس وليد الصدفة، بل ثمرة لمسارات طويلة ومعقدة من التفاعلات السياسية والاجتماعية والثقافية”.

واعتبر الحجمري، خلال كلمته الافتتاحية لهذا الملتقى، صباح الخميس، أن “تدريس التاريخ في الجامعة المغربية يطرح مجموعة من الأسئلة التي تتجاوز الجوانب المعرفية لتلامس رهانات الهوية والمواطنة والذاكرة”، وتساءل: “فهل نُعلّم التاريخ لفهم ما جرى أم لفهم ما يجري؟ وهل يُقدَّم بوصفه أداة لتحليل الوعي الجماعي بعيدا عن الرواية الجاهزة أم يُختزل في سرديات مدرسية جامدة لا تسع تعقيد الماضي ولا تحفّز على مساءلته؟”.

وقال أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة: “التاريخ ليس متحفا للماضي ولا أرشيفا للأحداث، بل هو مفتاح لفهم الحاضر وبوصلة لاستشراف المستقبل. لذلك، ينبغي تدريسه ليكون مدخلا لمساءلة المسلّمات، وفكّ شفرات الزمن العميق، وإعادة ربط الإنسان بجذوره (…) بناء على آفاق أرحب من التفكير والحرية”، لكن “إلى أي حد تمارس الجامعة دورها في إنتاج معرفة نقدية للتاريخ بدل الاكتفاء بنقل محتويات جامدة أو مجزأة؟”.

وأبرز المتحدث أن “التفكير في هذه الأسئلة يدفع إلى مساءلة العلاقة بين تدريس التاريخ وتشكيل حسّ المواطنة، وإلى استحضار ضرورة تجاوز النظرة التجزيئية التي تفصل بين تاريخ المغرب وتاريخ الآخر، نحو درس تاريخي يعيد تركيب موقع المغرب في العالم بطريقة أكثر توازنا وانفتاحا”، مسجلا أن الملتقى ينظّم “في سياق معرفي يتسم بتزايد التحديات التي تواجه تدريس التاريخ وإنتاجه العلمي، حيث تتقاطع الإشكالات المرتبطة بتجديد المناهج مع تنامي الوعي بضرورة تعزيز العلاقة بين المعرفة التاريخية والمجتمع”.

وشدد على أنه “لم يعد ممكنا النظر إلى التاريخ بوصفه مجالا معرفيا مكتفيا بذاته، بل أضحى أفقا للتفكير يستجيب لتحولات الواقع وأسئلته المتسارعة، في ضوء التغيرات الاجتماعية والثقافية والفكرية المعاصرة”، وتابع: “المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، حين يدعو إلى هذا اللقاء، لا يسعى فقط إلى التواصل مع الفاعلين الجامعيين، وإنما يهدف إلى الانخراط في مشروع علمي أوسع، يتجاوز القطيعة بين البحث الأكاديمي والحاجات المجتمعية، وإلى ربط جسور بين ما يُنتج داخل الجامعة وما يتطلبه المحيط من معرفة تاريخية رصينة”.

من هذا المنظور، يردف المدير السابق للمدرسة المولوية، “تصبح هذه المبادرة دعوة للمساهمة في بلورة تصور جديد لوظيفة تدريس التاريخ، تسهم في تكوين وعي نقدي يُمكّن الباحثين الشباب من قراءة الماضي في علاقته بالحاضر والمستقبل، وتفكيك السرديات السائدة”. كما “يصبح التاريخ، بالتالي، أداة لتحليل الفكر، وتطوير حسّ المواطنة المسؤولة التي تقوم على الفهم العميق للتاريخ في سياقه المحلي والعالمي”.

نحو تصور جديد

اعتبر رحال بوبريك، مدير المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الموضوع “في غاية الأهمية بالنسبة للبحث التاريخي”، وقال: “لا يمكن تطوير البحث التاريخي دون تكوين رصيد في حرفة المؤرخ منذ بداية التكوين في السنوات الأولى من ولوج الطالب إلى الجامعة. فالأسس الرئيسية للمهنة أو الحرفة والمعارف الضرورية تُدرّس في هذه السنوات، مع تعميقها في الأسلاك العليا، وخاصة بسلكي الماستر والدكتوراه”.

وأشار بوبريك في كلمته إلى أن المحاضرات والورشات التي يحتضنها الملتقى، تبتغي الإجابة عن مجموعة من الأسئلة، منها: “ما هو مسار تطور تدريس التاريخ في الجامعة المغربية؟ وما أهم المراحل التي مر بها في الجامعة المغربية؟ ما مجال ومواضيع الدرس التاريخي؟ كيف يتم تدريس التاريخ اليوم في الجامعات المغربية عموما، خاصة على ضوء الإصلاح الأخير؟”، بالإضافة إلى “ما هي الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من الإصلاح الجامعي الأخير؟ وكيف يمكن تحسين النظام الحالي؟ وإلى أي حد تأثر الدرس بالسياقات السياسية والاجتماعية منذ أنشئت أول جامعة؟ وما هي المواضيع والمجالات الغائبة في هذا الدرس؟”.

وفي هذا السياق، توقّف المسؤول الأكاديمي عند “سؤال من صميم اهتمامات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، هو: “علاقة الدرس التاريخي بالبحث التاريخي، أو كيف تفاعل الدرس التاريخي مع البحث التاريخي؟ وهل يمكن الحديث عن أزمة للدرس التاريخي اليوم؟ وما مدى تأثير هذه الأزمة على البحث التاريخي؟”، وقال: “بما أن المعهد يهتم بالبحث التاريخي بدرجة أولى، فإنه من الواجب طرح سؤال الفصل الذي يلاحظ بين إنتاج المعرفة ونقلها”.

كما قدّم ملاحظة مفادها أن أساتذة الجامعة المغربية، رغم ارتدائهم قبعة “الأستاذ الباحث”، يجدون في المهام “تمييزا بين البحث والتدريس”، وأضاف: “في الواقع، يُرصد النشاطان معا ضمن الوضع الحالي بالمؤسسات الجامعية، لكن في الترقية لا يُعتد إلا بنتائج البحث العلمي، بينما تبدو مهام التدريس وكأنها تبتعد عن النشاط العلمي. وحتى حين تُؤخذ بعين الاعتبار، فإن تقييمها يتم بالاستناد إلى جانب تقني يُختزل أحيانا في توظيف المعلوميات والدروس المطبوعة، وغيرها”.

وواصل: “شبكة التقييم المعتمدة من طرف الوزارة والتمييز بين البحث والتدريس يعكس رؤية معينة حول العلاقة بين نقل المعرفة وإنتاجها”، وشدد على أنه صار “من البديهي أن الدرس الذي يُقدم للطلبة، الغاية منه هو تقييم معارفهم عبر الامتحانات التي تؤدي إلى منح الشهادات. ولكن لم يكن هذا هو الحال دائما، فالدرس يصبح وسيلة لإنتاج المعرفة التي تدرس وينتجها الأستاذ الباحث وتساهم في تحقيق التراكم في حقل البحث العلمي التاريخي”.

من هنا، أكد مدير المعهد سالف الذكر “ضرورة إعادة التفكير في وظيفة الدرس التاريخي”، وزاد: “فبدل أن تظل هذه الوظيفة مجرد وسيلة لنقل المعارف، يمكن أن تصبح أداة فعالة لإنتاجها، من خلال التفاعل الحي بين الأستاذ وطلبته. وهذا يتطلب إعادة النظر في العلاقة بين التدريس والبحث العلمي داخل الجامعة”، وقال: “إن طرح هذا النقاش يدعونا إلى تجاوز التصورات التقليدية، والنظر إلى الدرس التاريخي كجزء من مشروع معرفي شامل يسهم في بناء فكر مغربي، ويعزز دور الجامعة كمؤسسة لإنتاج وتداول المعرفة على حد سواء”.

تحديات مطروحة

قال عبد العزيز الطاهري، رئيس شعبة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، إن “تناول موضوع الدرس التاريخي في الجامعة المغربية يقتضي استحضار الظروف العامة التي يُمارس فيها فعل التدريس”، معتبرا أنه “بغضّ النظر عن كل المتغيرات التي مست تدريس التاريخ، والتي تتطلب جردا وإلماما من أجل فهم وتثمين وتحديد وضعية انطلاق جديدة بآفاق جديدة ومجددة، فإن فهم وضعية درس التاريخ في الجامعة المغربية لا يمكن أن يتحقق دون الحديث عن طبيعة الإمكانيات التقنية والبيداغوجية والمادية المرصودة له، والقوانين والوثائق المؤطرة له”.

وشدد الطاهري على أنه “لا يمكن فهمها أيضا إلاّ باستحضار وضعية البحث التاريخي، وحالة التهميش التي عانت منها العلوم الإنسانية في المغرب الراهن، وهو ما انعكس بشكل مباشر على تدريسها في الجامعات”، وقال: “يبدو أن هذا التهميش، إلى جانب عوامل أخرى، أسهم في سيادة تمثُّل لدى فئات كثيرة من المجتمع تجاه التاريخ، بجعله مجرد مادة من الحفظ وحشو الذاكرة بمعلومات عن أحداث ماضية، لا فائدة منها في فهم مشكلات الحاضر واستشراف المستقبل”.

واعتبر أن هذا أبعد الدرس في وعي الناس عن كونه “ممارسة للتفكير والاستدلال واتخاذ المسافة النقدية تجاه الماضي وشواهده في الحاضر، بغية إدراك منطق التغير المؤسس للوعي التاريخي، الذي هو شرط أساس من شروط المواطنة”، وزاد: “إن مساءلة وضعية الدرس التاريخ الجامعي الراهنة مؤشّرٌ دالٌّ على رغبة مستمرة في التثمين والتجويد. ومن المؤسف أن الإصلاح الأخير فوّت فرصة مهمة لتطويره، وجاء مخيّبا للآمال ودون الانتظارات، بل شكّل تراجعا كبيرا في مسار تدريس التاريخ بالجامعة المغربية”.

وأشار إلى أن هذه الوضعية أدت إلى “رفضه بشكل واسع من طرف هيئة التدريس، ومن الغالبية العظمى من شعب التاريخ، بالنظر إلى ما اعتراه من اختلالات بيداغوجية وعلمية”، مضيفا أنه “قبل دخوله حيّز التنفيذ، قدمت هذه الشعب مقترحات لهندسة بيداغوجية بديلة، ثمّنت درس التاريخ، لكن الوزارة الوصية لم تتفاعل معها. ولأجل الارتقاء بدرس التاريخ وتأهيله في وظائفه المعرفية والمنهجية والقيمية والبحثية، صار من اللازم (…) توفير الظروف التقنية والعلمية والبيداغوجية والمادية المناسبة له”.

وأكد على “الاشتغال على المدخلات والسيرورات والمخرجات في مسار الدرس التاريخي بالجامعة، في اتجاه ضمان فرص أنجع لتكوين خريجين متمكنين من كفايات التفكير والبحث في التاريخ، وقادرين على حمل مشعل الاستمرارية وتجديد هذا الحقل المتميز في منظومة العلوم”، وقال: “عموما، يمكن الإقرار بأنه لا يمكن البدء في معالجة هذه الإشكالات التي يطرحها تدريس التاريخ بالجامعة المغربية إلا بانخراط واسع ومسؤول من أستاذات وأساتذة التاريخ وشُعَبهم ومسالكهم برؤية فكرية ومنهجية تجمع بين المقاربة التشخيصية الراصدة لواقع الحال من جهة، والمقاربة الاستشرافية التي تقدم خيارات ومداخل تطويرية” من جهة أخرى.

" frameborder="0">

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق