في بداية الثمانينيات، حضرت مناقشة رسالة دبلوم الدراسات العليا في التاريخ، في كلية الآداب ظهر المهراز بفاس. وأفرزت المناقشة فضيحة مجلجلة، خلاصتها المستوى المنحط للطالب، الذي بدا كما لو فُرضت رسالته على أساتذة اللجنة، فأشبعوه إهانة في المنهج والمعلومات المسروقة واللغة وحتى قلة الأدب، لأنه لم يكن يحترم لا اللجنة ولا الحضور الكبير. وفي الأخير منحته هذه اللجنة درجة متوسط على مضض. تلك كانت أول مرة أعرف أن الفساد دخل إلى الجامعة. وفي دورة أربعين سنة، أحياني الله حتى رأيت ما هو أفظع وأخطر.
طلبت من صديقي أستاذ القانون الخاص في كلية الحقوق أن ينصحني بموثق موثوق به يقوم بإجراءات التحفيظ والتسجيل لبيتي المتواضع، فاتصل بموثق شاب هو أحد طلبته الذين ناقشوا الدكتوراه تحت إشرافه. والذي لم يخيّب الظن فيه إذ طلع ابن ناس، جديرا بالثقة. هذا الصديق رجل نقي متواضع قنوع، لم يملك غير شقة في عمارة وسيارة، رغم أنه يمتلك علاقات واسعة في المدينة، طلبة قدامى عبارة عن محامين، موثقين، قضاة، وكلاء الملك ونوابهم، عمداء أمن، ضباط أمن ممتازين، مفتشي مالية، أطر عليا في إدارة الضرائب وغيرها. لكنه لا يستغل هذه العلاقات، لا في أغراضه الشخصية ولا في أغراض غيره إلا ما كان حلالا، لا شبهة فيه ولا تعارض مع القانون.
سألته عن التفاوت الطبقي الكبير بينه وبين زملائه في الكلية، فقال لي: إن الأستاذ في كلية الحقوق إذا اعتمد على راتبه الشهري وبعض عوائد الإشراف على البحوث لا يمكن أن يتجاوز ما أمتلِكه أنا. اللهم إذا استفاد من ميراث محترم أو غير ذلك. وحين سألته عن الأستاذ بائع الشواهد، قال لي أن ذلك جديد على هيئة التدريس في كليات الحقوق، ولا شك أنه ظهر مع الأجيال الجديدة التي تحملت مسؤولية التدريس انطلاقا من سنوات الألفين، وأنه من الصعب تعميم الأمر على قطاع التعليم العالي.
لقد ظللت أعتقد أن الفساد المستعصي على سلطة القانون لا يوجد سوى في مدينتي، حتى نبهني من غفوتي بائع الشواهد، فاستشرت أحد أصدقائي الذين ألجأ إليهم في لحظات الحيرة وسوء الفهم، فقال:
– هل تعتقد أن مدينتك وحدها أصابتها لعنة الفاسد صاحب الحصانة، الذي لا يطوله حساب ولا عقاب؟ راجع حساباتك! إن في كل جهة فاسد جهوي هو الذي ينظم فساد الجهة بأقاليمها ومدنها وخيراتها مما هو فوق الأرض أو تحتها. هي شبكة منظمة تصنع رجالها الذين يقضون حاجاتها، من يحتاج إلى الشواهد من يحتاج إلى معرفة العقارات والأرضين ذات الثغرات القانونية، من يحتاج إلى أحكام قضائية معينة، من يحتاج إلى تدخل السلطة بطرق غير اعتيادية، مقالع سائبة، رمال مختبئة وزيد وزيد..
وهذا ما يفسر كتم الفضائح التي تظهر أحيانا، وتكاد تكون من “المفضحات” فيتم طمسها ومداراتها بالزمن حتى تنسى. وهو ما وقع لبائع الشواهد إذا تحقق أنه مرتكب للجرائم المذكورة. من حماه من المحاسبة كل هذا الزمن؟ ما هي القوة التي تسترت عليه؟ فإذا كانت آلية الحرب على الفساد قائمة على قدم وساق فإن الفاسدين لا حظ لهم في الهروب بين ثنايا الأيام والسنوات والعقود. أو كما يقول المثل المغربي: “صياد النعام يلقاها يلقاها”
نحن في المغرب مُطْمَئِنّون إلى سلطة الملك التي توجد فوق كل السلطات، إذا كانت سلطته الدينية تحمينا منذ زمن بعيد من عبث فقهاء الظلام وشياطين الإفتاء والمشتغلين بالإسلام السياسي، فإن سلطة الملك الدستورية والقانونية العليا لن يعلو عليها أي شكل من أشكال الفساد، حتى لو تقوى بأي شخص في البلاد كيف ما كانت قوته وأدرعه وأمواله. ولن تظل النسور المتربصة بنا، الواقفة على أشجار الشر، مؤمنة بأن الرصاص الذي سيسقطها فاسد أيضا.
خلاصة قولي إنه لولا هذا الأمان سالف الذكر الذي نحس به جميعا، لما استطاع مغربي واحد أن ينظر إلى الأمام نظرة متفائلة، وأن يثق في المستقبل بأي شكل من أشكال التطمين المادي والمعنوي، سواء أكان هذا التطمين صادقا أم كاذبا.
0 تعليق