رسالة العيد.. خطاب العزلة والإنكار من الإخوان للمعتقلين

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فى رسالته الموسومة بـ"رسالة خاصة من الدكتور صلاح عبدالحق إلى المعتقلين فى مصر"، نشرها أمس الجمعة 6 يونيو 2025، على منصة " x"، قدّم القائم بأعمال المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين خطابًا مشبعًا بالعاطفة الدينية، يُقارب فى نَبرته الخُطَب الوعظية، لكنه يخفى فى طيّاته رسالة سياسية واضحة. فالرسالة، التى وُجّهت للمعتقلين من كوادر الجماعة، تتوسّل بالسرديات القرآنية والرموز الدينية لاستعادة صورة "الابتلاء المقدس" التى لطالما استخدمتها الجماعة لتبرير فشلها السياسى وتغليف أزماتها الداخلية بقدسية زائفة. غير أن هذا الخطاب بدا اليوم معزولًا عن الواقع، متكلّسًا، لا يسمعه أحد سوى أتباع الجماعة أنفسهم، أولئك الذين يزدادون انكماشًا فى فقاعة ضيقة من التكرار والمظلومية.


صلاح عبدالحق، الذى تولى مهام القائم بأعمال المرشد العام عقب تراجع النفوذ التنظيمى لقيادات الصف الأول داخل مصر وخارجها، هو أحد رموز الجيل القديم فى جماعة الإخوان، وكان ينتمى إلى ما يُعرف بـ"التيار المحافظ" داخلها. ورغم أنه لم يحظَ بشهرة واسعة كغيره من قيادات الجماعة التاريخيين، إلا أن اختياره جاء انعكاسًا لحالة التآكل القيادي، والفراغ الذى خلفته الانقسامات والانشقاقات المتتالية بعد ٢٠١٣. وبدل أن يقدم طرحًا متجددًا يواكب المتغيرات، يعيد عبد الحق إنتاج خطاب الجماعة التقليدي، وكأنه يتحدث من زمن آخر، متجاهلًا التغيرات العميقة التى طرأت على المجتمع المصرى وعلى موقع الإخوان فيه.


خفايا الرسالة


الرسالة، فى ظاهرها، تبدو تهنئة رقيقة بعيد الأضحى، مرسلة من "القيادة" الإخوانية إلى من تصفهم بـ"الأحباب" فى السجون. فهى تحفل بالتعابير الدينية والوجدانية، وتفيض بصور قرآنية وتشبيهات روحية، مثل الحديث عن "السكين الأقرب إلى العروق" و"فرج الله الذى كان أقرب من الذبح"، وتُسقِط على المعتقلين أوصافًا ملائكية من طراز "المغيبون عن أهليكم وأولادكم من أجل دينكم"، و"أطهر جيل لأقسى محنة". هذه العبارات تُعيد إنتاج صورة "المعتقل الإخواني" كرمز طهوري، مُفارق للعامة، موحَّد بالله، يُضحّى بنفسه لا من أجل مشروع سياسي، بل فى سبيل "قضية مقدسة".


لكن عند القراءة السياسية المتأنية، تتكشف أبعاد أعمق للرسالة، تتجاوز مجرد التهنئة. إذ نلحظ سعيًا دؤوبًا لإعادة ترسيم مكانة المعتقل الإخوانى داخل الخيال التنظيمى كـ"شهيد حي"، يحمل لواء "المحنة" التى لا تنتهي، ويصبح عبرها هو النموذج الأمثل للمسلم الحق. هذا ما يظهر جليًا فى قول الرسالة: "فوالله ما استقام له [الظالم] أمر، ولا صلح له عمل، ولا تحقق له أمل منذ امتدت يدُه إليكم بالغائلة"، وهى صيغة تسحب أى معنى سياسى أو واقعى للهزيمة، وتُفرغ المأساة من سياقاتها التاريخية والاجتماعية لتجعلها مجرد محكٍ إلهى لتثبيت الإيمان.


لكن الأخطر من ذلك، هو ما لا تقوله الرسالة. فهى لا تتضمن، ولو بكلمة، أى اعتراف بالخطأ، أو مراجعة للمسار، أو حتى تلميح خجول إلى التفكير فى المستقبل خارج سردية "الثبات على الطريق". لا حديث عن المآلات الكارثية لما بعد ٢٠١١، ولا اعتراف بالثمن الفادح الذى دُفع من دماء وأعمار ليس فقط كوادر الجماعة، بل من نسيج المجتمع المصرى نفسه. على العكس، تنضح الرسالة بروح ماضوية، كأنها تقول للمعتقلين: "ابقوا حيث أنتم، لأننا كما نحن، ثابتون بلا مراجعة، ولا تغيير".
وفى هذا الصمت المدوى تكمن دلالة جوهرية: الرسالة لا تسعى إلى تحريك واقع، بل إلى تثبيت وهم. إنها تؤسس لتقديس المعاناة لا تجاوزها، ولتحنيط الرموز لا نقدها، ولتعليق الواقع السياسى والاجتماعى عند لحظة المجد المزعوم، لا العمل على استشراف مخرج منه. ففى قولها: "دعوة الله عصيّة على الإنهاء، ومحاربته سبحانه إلى زوال"، تحوِّل الجماعة ذاتها إلى تجسيد للدين، وتخلط بين الرسالة السماوية والمشروع الإخواني، وهو لبّ أزمة الإخوان الكبرى مع الدولة والمجتمع والتاريخ.


استخدام الدين كدرع أيديولوجية


استخدام الدين كدرع أيديولوجية، هو أحد أبرز ملامح الخطاب الإخوانى فى العقود الأخيرة، لكن رسالة الدكتور صلاح عبدالحق تمثل نموذجًا مكثفًا لهذا النمط، حيث يتجاوز التوظيف الرمزى إلى إنتاج بنية لغوية وعقائدية تُحصّن الجماعة من الداخل، وتُعفيها من أى مساءلة خارجية. فالمعتقل، وفق الرسالة، ليس سجينًا سياسيًا دفع ثمن حسابات فاشلة أو رهانات خاسرة، بل هو "اليوسفى المجهول أرضًا، المشهور سماءً"، "أشبه بالوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام"، أى أنه سجين فى مقام النبوة والصحبة، ما يخرجه من المجال السياسى إلى الفضاء المقدس، ويجعل المساس بقضيته أو نقدها ضربًا من الوقيعة فى الدين ذاته.


هذا التقديس للمحنة يتجلّى بوضوح فى المقطع الذى يقول فيه عبدالحق: "ينشر ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقًا"، ثم يستدعى قصة إبراهيم عليه السلام، حين كان "السكين أقرب إلى العروق" و"الذبح أقرب إلى الحدوث"، ليؤكد أن الفرج الربانى أعظم من كل التوقعات. هنا، تصبح معاناة المعتقلين لا نتيجة قرارات سياسية خاطئة، بل تجلٍ لإرادة إلهية عليا، وموقعًا اختاره الله لهم ليطهّرهم ويرفع منزلتهم. وهكذا، يغدو الظلم المعيش امتحانًا للإيمان، لا نتيجة لمسار سياسى تحكمه عوامل بشرية قابلة للنقد والمراجعة.


وتكمن الخطورة فى أن هذا النمط من الخطاب يحوّل القيادة ذاتها إلى كيان "معصوم" عمليًا، لأنها –وفق هذا المنطق– مجرد أداة فى يد القدر الإلهي، لا يُسائلها أحد عن نتائج الأفعال، بل يُطلب من الجميع الصبر على الابتلاء وانتظار الفرج. ففى قوله: "فما نقصان هذا [الظلم] إلا من نهاية ذاك [الابتلاء]"، يربط نهاية المحنة بنفاد صبر الخصم، لا بتغيير فى الرؤية أو المنهج، ما يعكس قناعة دفينة بأن المسار لم يكن خاطئًا، بل فقط لم يُستكمل بعد. وهذه بالضبط هى الذريعة التى تُبقى الجماعة فى حالة تجميد دائم، تتغذى على خطاب المظلومية وتتجنب أى تفكير حقيقى فى الإصلاح أو التجديد.


والمحصلة أن الرسالة، عوضًا عن أن تكون مساحة للمكاشفة أو النقد الذاتي، تتحول إلى "وثيقة شرعية" لإعادة إنتاج الأزمة، فحين يقول عبدالحق: "دعوة الله عصيّة على الإنهاء، ومحاربته سبحانه إلى زوال وبوار"، يُسقِط مرة أخرى بين الجماعة والدين، فلا يكون الفشل فشلًا سياسيًا، بل استهدافًا إلهيًا يُبتلى به "المؤمنون" ليزيدهم إيمانًا. وهكذا، تُقنّن الرسالة لثقافة الصمت والطاعة، وتُقدّم المعاناة كسردية خلاص، فى تجاهل تام للكلفة التى يدفعها المجتمع والدولة، والمعتقلون أنفسهم، عنادًا فى التغيير، ورفضًا للاعتراف.


لغة بلا جمهور.. وهم العودة المفقودة


الرسالة التى بعث بها الدكتور صلاح عبد الحق تحمل ملامح لغة خارج السياق، وكأنها كُتبت فى فراغ زمنى لا يعترف بأن عقدًا كاملًا قد مضى على تراجع الجماعة وتآكل حضورها الشعبى والسياسي. فهى لا تخاطب الحاضر، بل تستدعى جمهورًا من الماضي، جمهورًا كان موجودًا قبل عام ٢٠١٣، لكنه اليوم إما ابتعد، وإما راجع قناعاته، أو تجاوز الجماعة تمامًا. اللغة ذاتها محنطة، مثقلة بمفردات دينية منزوعة من سياقها الاجتماعى والسياسي، تستدعى "يوسف عليه السلام" و"الذبح العظيم" و"الفرج الإلهي"، لكنها لا تقول شيئًا له صلة بواقع الناس اليوم، ولا تعبّر عن تطورٍ فى فكر الجماعة أو أدواتها.


فالمواطن المصرى اليوم لا يعيش فقط فى ظل قبضة أمنية، بل يواجه أزمات اقتصادية خانقة، وتحولات اجتماعية عميقة، بينما الخطاب الإخواني، كما تعكسه الرسالة، يتجاهل هذه التحولات تمامًا. لا نجد فى كلمات عبد الحق أى حديث عن العمل أو الغلاء أو التعليم أو الصحة أو حتى العدالة الاجتماعية – القضايا التى تشغل المواطن العادى يوميًا. وبدلًا من ذلك، يطلب من المعتقلين ومن ورائهم الجماهير أن يظلوا "صامدين"، و"ثابتين"، وأن ينتظروا "فرجًا قريبًا"، دون أى خطة أو تصور واقعى لماهية هذا الفرج أو كيف يتحقق.


هذا الانفصال عن هموم الناس اليومية ليس تفصيلًا عرضيًا، بل يعكس مأزقًا وجوديًا تمر به الجماعة. فهى لم تعد تمتلك لغة تواصل مع الشارع، ولم تطور خطابًا يستجيب للأسئلة الجديدة التى يطرحها الواقع المصري. يقول عبد الحق للمعتقلين: "لكم الله، لا يضيعكم"، ويطالبهم بـ"التمسك بالصبر والثقة فى الله"، لكن هذه العبارات، رغم ما تحمله من طمأنينة دينية، تبدو خاوية من المعنى حين تُطرح بلا سياق سياسى عقلانى أو برنامج واقعى يعيد الجماعة إلى دور فعّال فى المجتمع. إنها خطبة روحية أكثر منها بيانًا سياسيًا، موجهة إلى جمهور لم يعد يؤمن.


فى النهاية، يظهر خطاب الجماعة وكأنه يدور فى حلقة مغلقة من التكرار، يعيد إنتاج أساطير الذات المظلومة دون مراجعة أو إصلاح. وبينما يبحث المجتمع المصرى – بما فيه من قوى سياسية وفكرية– عن أفق جديد يتجاوز الاستقطاب ويعالج الأزمات الهيكلية، يصرّ الإخوان على خطاب ماضوى يقدّس المعاناة ويحوّلها إلى غاية فى ذاتها. صمتهم عن قضايا الناس الحقيقية، وتشبثهم بـ"المحنة" كشكل من أشكال البطولة، لا يعبّر فقط عن انفصال عن الواقع، بل أيضًا عن غياب أى مشروع للتجديد أو العودة. باختصار، هم يتكلمون، لكن لا أحد يسمع.


خطر الإخوان.. لا فى قوتهم بل فى أوهامهم


رغم ما تبدو عليه جماعة الإخوان المسلمين من ضعف تنظيمي، وتشظٍ داخلي، وملاحقة أمنية، إلا أن خطورتها لا تكمن اليوم فى قدرتها على الحشد أو الفعل السياسي، بل فى قدرتها على الاستمرار كفكرة مغلقة تُعيد إنتاج ذاتها داخل الوعى الدينى لبعض الفئات. فالجماعة، كما تعكس رسالة صلاح عبد الحق، لم تتخلَّ عن منطق التقديس للمعاناة، ولم تخرج من إطار "المحنة" باعتبارها مرادفًا للشرعية، بل تواصل إعادة تدوير خطاب يختزل السياسة فى البلاء، والفشل فى "ابتلاء رباني". هذا الخطاب – وإن كان يبدو مكررًا – يشكّل خطورة فكرية على الوعى العام، لأنه يضرب أسس السياسة المدنية، ويصوّر الانكسار كنوع من الجهاد المجرد من الغاية السياسية.


فى نص الرسالة، نجد عبد الحق يقول للمعتقلين: "أنتم فى منازل الأنبياء"، و"المحنة طريق الصدق"، وهى عبارات تنقل المعاناة من ساحة السياسة إلى فضاء القداسة، وتُخرج الجماعة من أى مساءلة بشرية باعتبار أنها تعانى فى سبيل الله. هذا التقديس للمحنة لا يُعفى القيادة فقط من النقد، بل يزرع فى أذهان الأتباع شعورًا بالتفوق الأخلاقى والديني، يجعلهم يرون الآخرين – بمن فيهم عموم الشعب – كمن خذلوا "دعوة الله"، لا كمن رفضوا تنظيمًا سياسيًا أخطأ الحسابات وأسقط الدولة فى فوضى. هكذا تتحول السياسة إلى عبادة، والخطأ إلى ابتلاء، والفشل إلى دليل على الإيمان.


الخطورة الحقيقية هنا أن هذا النمط من الخطاب ما يزال قادرًا على البقاء داخل دوائر دينية مغلقة، أو بين شرائح من الشباب المتدين الذى يعانى من اغتراب سياسى أو فقدان أفق. فالجماعة، رغم فشلها الواقعي، ما تزال تحتفظ بسردية تقنع هؤلاء بأنهم على "الطريق الحق"، وأن الظلم الذى يعيشونه هو دليل على صدقهم، وليس على خلل فى المنهج أو التنظيم. وهذا ما يجعل الإخوان، وإن انتهوا كتنظيم فعّال، يملكون القدرة على العودة كأفكار تحت الجلد، كامنة، تنتظر فرصة جديدة للانبعاث، تمامًا كما حدث سابقًا بعد محن الستينيات.


ختامًا، تكمن خطورة الإخوان اليوم فى رفضهم إعلان نهاية الوهم، وإصرارهم على بعث الحياة فى جسد تنظيمى وسياسى ميت. رسالة عبد الحق ليست مجرد تهنئة بعيد الأضحى، بل محاولة أخرى لغرس الإيمان فى مشروع فقد شرعيته التاريخية، والاستمرار فى جر الأتباع نحو مسارات الاصطدام مع الدولة والمجتمع. بهذا المعنى، فإن الإخوان لا يشكّلون خطرًا كقوة راهنة، بل كأثر ثقافى وعقائدى يكرّس الانفصال عن المجتمع، ويعيد إنتاج منطق "نحن وهم" فى كل دورة من دورات الفشل.


تهافت دعوى العودة إلى الحياة السياسية


من يقرأ رسالة الدكتور صلاح عبد الحق، يدرك أن الحديث عن "عودة الإخوان للحياة السياسية" ليس إلا وهمًا يردده بعض قادة الجماعة فى الخارج دون أى معطى واقعي. فالرسالة – التى يُفترض أنها تحمل خطابًا سياسيًا موجهًا لأكثر الفئات تضررًا من خيارات الجماعة، وهم المعتقلون– لم تطرح أى مبادرة، أو مراجعة، أو حتى خطاب جديد. لا توجد فيها مؤشرات لأى تصور مدنى للحكم، ولا أى تلميح لإعادة النظر فى أخطاء السنوات العشر الماضية. كل ما تقوله الرسالة: اصبروا، فأنتم على الحق، والله سيمتحنكم وينصركم، فى لغة تستدعى النصوص أكثر مما تلامس الواقع.


بل الأسوأ أن الرسالة تكرّس خطاب "الفرقة الناجية"، وتُصر على أن ما جرى للإخوان ليس نتيجة سوء تقدير سياسى أو فشل فى قراءة تحولات المجتمع، بل "محنة ربانية" تقع ضمن سُنن الابتلاء والتمحيص. تقول الرسالة: "أنتم فى منازل الأنبياء، لأنكم على الحق... والله اصطفاكم للثبات"، وكأن الجماعة كانت دائمًا على الطريق المستقيم، والشعب أو الدولة أو الخصوم هم من انحرفوا. هذا النوع من الخطاب لا يترك أى مساحة للنقد الذاتى أو للاعتراف بالمسؤولية، بل يغلق الباب تمامًا أمام فكرة المراجعة أو إعادة التواصل مع القاعدة الاجتماعية التى هجرت الإخوان.


كما أن الرسالة تفتقر تمامًا إلى أى إشارات لفتح قنوات مع القوى السياسية الأخرى، أو حتى مع أطياف من الإسلاميين غير المنتمين للجماعة. فطوال نص الرسالة، لا يظهر أى وعى بوجود مجتمع سياسى خارج الجماعة، ولا حديث عن الشراكة أو التعدد أو التحالفات. وكأن الخطاب موجّه إلى "جماعة المؤمنين" وحدها، فى سردية مغلقة تنظر إلى الآخر كخصم أو متخاذل، لا كطرف يمكن التفاعل معه. هذه النظرة الانعزالية تتناقض مع أى دعوى للعودة إلى السياسة، التى تستدعى بالضرورة رؤية للواقع، وتواصلًا مع المجتمع، وقبولًا بالتنوع.


وهكذا، ينكشف أن الخطاب الإخوانى كما يعبر عنه عبد الحق، لا يحمل أى ملامح لمشروع سياسى قابل للحياة، بل يعيد إنتاج ذات المنطق الذى قاد الجماعة إلى أزمتها الراهنة. لا تصور ديمقراطي، ولا حديث عن دولة مدنية، ولا حتى تلميح لاعتذار من الشعب المصرى على ما جرى بعد ٢٠١١. هى رسالة مكتوبة بلغة الماضي، موجهة إلى جماعة مغلقة على نفسها، تُقنع المعتقلين أنهم فى علياء إيماني، بينما تُبقى التنظيم فى قاع العزلة السياسية والفكرية.


رسالة قديمة لعصر جديد


رسالة الدكتور صلاح عبد الحق الأخيرة لا تعبّر فقط عن حال المعتقلين فى السجون، بل تختصر مأزق الجماعة بأكملها: خطاب متكلس، قيادة مفصولة عن الواقع، ورؤية مؤجلة بلا ملامح سياسية واضحة. الرسالة، رغم توقيتها فى عيد الأضحى، تحمل نبرة حزينة، مأزومة، تُعيد تدوير الخطاب القديم ذاته الذى استخدمته الجماعة لعقود، كأن الزمن توقف. يتحدث عبد الحق عن "الثبات فى وجه البلاء" و"التمكين بعد الابتلاء"، لكنه لا يطرح سؤالًا واحدًا عن جدوى المسار الذى اتُّبع، أو عن ثمنه السياسى والاجتماعى والأخلاقي.


وبينما يُفترض أن العيد مناسبة للفرح والتجديد، فإن الرسالة تُغرق المتلقّى فى خطاب الألم والانتظار الميتافيزيقي. لا تحمل الرسالة أى بارقة لتجديد سياسى أو فكري، بل تعيد إنتاج مفردات المظلومية والابتلاء والصبر، وتُغرق المعتقل فى "فضيلة الألم"، إذ يقول عبدالحق: "يا من سُجنتم ظلمًا، أنتم فى مقامات الأنبياء، والله لا يضيع أجر الصابرين." هذه التضمينات الدينية، بدل أن تفتح أفقًا جديدًا، تبدو كأنها جدار يُغلق على الداخلين، يمنعهم من التفكير فى الخروج من الدوامة أو مراجعة المسار.


الأزمة الأعمق أن الرسالة لا تُشير لا من قريب ولا من بعيد إلى نهاية الطريق أو ضرورة وقفة للمراجعة. فالجماعة، كما توحى الرسالة، ما تزال ترفض الاعتراف بانتهاء دورها السياسى أو بضرورة تجاوز بنيتها القديمة. تقول الرسالة بوضوح: "إن الله يُملى للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته"، فى استمرار لمنطق الانتظار القدري، دون أدنى محاولة لفهم تغير الزمن، أو إعادة التفكير فى أدوات التغيير. وكأن المطلوب من الأتباع أن يبقوا أسرى الأمل الغيبي، لا أصحاب فعل واقعي.


إن أخطر ما فى الرسالة أنها توحى بأن الجماعة لا تزال تمتلك "الحقيقة"، وتُصر على بث الحياة فى مشروع يحتضر، دون أى فعل يُسند هذا الادعاء. الجماعة هنا لا تعترف بنهايتها، بل تروّج لوهم الاستمرارية، وتُطيل أمد الانفصال عن الواقع. فهى لا تطلب من الأتباع خطوات فعلية، بل مجرد انتظار طويل تحت عنوان "الفرج قريب"، كما جاء فى النص: "لا تيأسوا، فإن بعد العسر يسرا، وبعد المحنة تمكينًا." لكن ما يُغيّب تمامًا هو: من سيقوم بالفعل؟ ومتى؟ وبأى برنامج؟ وبأى مراجعات؟ هذه الأسئلة تظل معلّقة فى الفراغ، كما هو حال الجماعة كلها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق