تسللت أشعة الشمس من بين المآذن، تصبغ واجهات المباني العتيقة بلون الذهب المحترق، كانت السماء فوق مسجد الحسين تتحول من الأزرق إلى البرتقالي ثم إلى أرجواني عميق، وكأن ملاكًا سماويًا يُجري تجارب الألوان على قماش الكون.
رغم ضجيج الباعة وصخب السيارات البعيدة، ثمة سكينة عجيبة تخترق الضوضاء، كأنها موجة صوتية مضادة، تُلغي كل شيء وتبقي على الصمت وحده، سمعتُ وقع خطواتي فوق الحجارة، ذلك الصوت الذي لا يشبه أي صوت آخر في العالم، حجارة قديمة لامستها أقدام القرون، وها هي تتلقى خطواتي بترحاب.
من دكان صغير على الزاوية، تسربت رائحة العنبر الثقيلة، امتزجت مع طيف خفيف من البخور والمسك، استنشقتُ بعمق، فاخترقتني الرائحة كسهم من نور، وأيقظت في ذاكرتي مشاهد لم أعشها قط، كيف أتذكر ما لم أره؟ كيف أحنّ إلى ما لم أعرف؟
وفجأة، شعرتُ بما لا يمكن وصفه، كأن المكان يناديني باسمي... لا أحد هنا يعرفني، لكن الجدران تفعل، الأعمدة والأقواس والنقوش، كلها تبتسم لي ابتسامة التعرّف الصامت، كأنها تهمس: "جئت أخيرًا".
حين يسكنك درب لا بيت
ليس من المنطق أن أشعر بالحنين إلى مكان لم أولد فيه، لم أفتح عيني للمرة الأولى على ضوء شمس شارع المعز، ولم تكن أصوات الباعة وهمسات المصلين موسيقى طفولتي، ومع ذلك، ثمة شعور غريب بأنني ابن هذا المكان، كأن روحي عاشت هنا في حياة سابقة، أو كأن خلاياي تحمل ذكرى المكان في شفرتها الوراثية.
أعتقد أن هناك أوطانًا روحية لا علاقة لها بجواز السفر أو شهادة الميلاد، أماكن تعرفك قبل أن تعرفها، وتناديك عبر المسافات والسنين، تقول لي ابتسامة العجوز الجالس قرب محل العطارة أكثر مما تقوله ألف كلمة، يداه المتجعدتان تزنان الكركديه الأحمر بميزان نحاسي قديم، وعيناه تحملان حكمة سبعين عامًا من الجلوس في المكان ذاته، يراقب الوجوه تأتي وتذهب.
"اتفضل يا إبني، كوباية كركديه يبرّد القلب الحاير."
لمست أصابعي الكوب الزجاجي الصغير، فأحسست بدفئه يتسرب إلى أطرافي البعيدة، طعم المشروب الأحمر حامض وحلو في آن واحد، مثل الحياة تمامًا، مثل هذا المكان، مزيج من المرارة العتيقة وحلاوة الذكريات التي لم نعشها.
أتحسّس الجدران برؤوس أصابعي، حجارة خشنة، باردة، صلبة، لكنها ليست قاسية، حجارة منحوتة بإزميل الزمن وصقلتها أكف آلاف البشر، تنقل إلى جلدي حرارة خفية، كأنها تحكي قصصًا بلغة اللمس وحده، هنا، كل شيء يخاطبك بحواس لم تعرف أنك تملكها.
شارع المعز.. مرآة الذات المكسورة
انعطفتُ يمينًا، متجاوزًا الشارع الرئيسي إلى زقاق ضيق، فجأة، توقف الزمن، الضوء يتسلل بصعوبة بين البنايات المتلاصقة، يُكوّن بقعًا ذهبية متناثرة على الأرض، كنجوم سقطت من سماء نهارية، ارتفع صوت الأذان من مئذنة مسجد قلاوون، صوت يربط الأرض بالسماء.
وقفتُ مشدوهًا أمام مسجد برقوق، بوابته الخشبية العملاقة تنفتح على عالم آخر، كأنه كائن حي يتنفس، المحراب فمه الصامت، القبة رأسه المرفوع نحو السماء، والأعمدة أضلاعه تحمل ثقل القرون، تتصاعد همهمات المصلين، تتلاشى في الفضاء، ثم تعود كصدى خافت.
وقفتُ أمام الباب الخشبي المنحوت، أتأمل تعاريجه ونقوشه، باب عمره قرون من الزمان، شهد دخول وخروج آلاف البشر، بعضهم عاد إلى التراب منذ زمن بعيد، تحسّست النقوش البارزة، وكأنني أقرأ سطورًا مكتوبة بلغة الخشب والإزميل.
سألته في سري: "كم سرًا ابتلعت؟"
فأجاب بصمته وصداه.
شعرتُ للحظة أنني أرى نفسي في مرآة مكسورة، كل شظية تعكس جزءًا مختلفًا من روحي، روح متشظية مثل ضوء الشمس المتسرب عبر المشربية، منقسمة إلى ألف لون وظل، هنا، في حضرة هذه الجدران، لا أستطيع الكذب على نفسي، أحمل بداخلي كل الأشخاص الذين كنتهم يومًا، والأشخاص الذين أخشى أن أكونهم، والأشخاص الذين لم أجرؤ على أن أصيرهم.
الغورية.. سوق الذاكرة وعبور الأرواح
في سوق الغورية، تتكثّف الحياة حتى تكاد تسيل من بين أصابعك كعسل ذهبي ثقيل، الأجساد تتلامس، تتدافع، تتراقص في مساحات ضيقة، هنا، الإنسان هو المشهد، لا الحجارة.
لفت انتباهي بائع مسن يرتدي جلبابًا أزرق باهتًا، يبيع أوانٍ نحاسية تلمع تحت أشعة الشمس، وجهه محفور بخطوط عميقة، كأنما كتب الزمن عليه قصة حياته كاملة، يضحك بصوت أجش كلما مر به طفل، ويمد يده بقطعة حلوى صغيرة، أراقبه وهو يلمّع إبريقًا نحاسيًا بقطعة قماش، حركة دائرية متكررة، طقس يومي أتقنته أصابعه منذ نصف قرن.
وفتاة صغيرة، لا تتجاوز العاشرة، تحمل قفصًا صغيرًا فيه زوج من الحمام الأبيض، تمشي بخفة، تتمايل بين الزحام كنسمة هواء، عيناها واسعتان، تبتلعان المشهد بدهشة طفولية لم تتلوث بعد بروتين الواقع، تتوقف أمام كل دكان، تتأمل البضاعة، تبتسم للباعة، ثم تواصل طريقها وكأنها ساحرة صغيرة تنثر سحرًا خفيًا لا يراه أحد سواي.
أسأل نفسي: أليس الإنسان هو من يصنع المكان، لا العكس؟ هذه الشوارع تسكنها الوجوه والأصوات والخطوات، الجدران ليست سوى شهود صامتين على قصص لا تنتهي.
أغمضتُ عيني للحظة، وخيّل إليّ أنني أسمع خطوات من عاشوا هنا منذ مئة عام، صوت عربات تجرها الخيول، ضحكات نساء مختبئات خلف مشربيات خشبية، أصوات باعة ينادون على بضاعتهم بلهجة قديمة.
فتحت عيني، فرأيت شابًا يقف عند زاوية دكان، ملامحه تشبه إلى حد مذهل وجهًا رأيته في لوحة لرسام مستشرق فرنسي زار مصر في القرن التاسع عشر، نفس الوجه المستطيل، نفس العينين الواسعتين، نفس الابتسامة الغامضة، الوجوه تتكرر، أليس هذا الشاب هو ذاته من رسمه المستشرق في لوحته؟ أم أن الروح تعود في أجساد مختلفة لتعيش في الأماكن التي أحبتها يومًا؟
بيت القاضي، باب زويلة، وسراب الندم
أكثر ما يسحرني في هذه المنطقة، تلك الزوايا المنسية، المخبأة كالأسرار بين طيات المدينة، بيت القاضي واحد منها، يقف صامتًا وسط الزحام، كحارس قديم نسي الناس وجوده، لكنه لم ينس واجبه.
البيت يقف كأنه حافظ سرّ لا يبوح، شرفة صغيرة تنظر إلى الماضي، ونافذة مشقوقة يطل منها طيف امرأة لا نراها، أحيانًا، حين ينقطع الصوت للحظة خاطفة، يمكنك سماع همسات تتسرب من بين الشقوق، أصوات محادثات قديمة، ربما عن عدالة ضائعة، أو حب مكتوم، أو حكم لم ينفذ.
آخر مرة زرت هذا المكان، كنت أحمل في قلبي خسارة ثقيلة، شخص أحببته رحل دون وداع، ترك في روحي فراغًا بحجم كون، جلست على عتبة حجرية متآكلة، ظهري إلى الجدار، ووجهي إلى الشارع، راقبت المارة يعبرون، كل منهم يحمل عالمه الخاص، قصته، أحزانه، أفراحه، شعرت فجأة بالدموع تملأ عيني، دموع صامتة، لا نشيج يصاحبها، لا أنين.
عند باب زويلة، توقفت طويلًا، قوس حجري عملاق، شاهد على أحداث تاريخية وأخرى شخصية لا يعرفها إلا هو، كم من عاشق مر من تحت هذا القوس، يحمل وردة أو قلبًا مكسورًا؟ كم من تاجر عبره، محملًا بالبضائع والأحلام؟ كم من محارب، كم من شاعر، كم من امرأة متشحة بالسواد؟
المقاهي القديمة.. مقاعد الراحلين وأحاديث الغائبين
في مقهى الفيشاوي، الزمن مفهوم مرن، مائة عام تنكمش لتصير ساعة، وساعة تتمدد لتصير عمرًا، عندما تجلس على أحد مقاعده الخشبية القديمة، تجلس في حضرة أشباح محببة، نجيب محفوظ في زاويته المفضلة، أم كلثوم تمر مع حاشيتها، شعراء وأدباء تناسلت حولهم الأساطير.
رائحة المعسل تتصاعد من عشرات الشيش، تمتزج مع رائحة القهوة التركية المغلية على الرمل، ورائحة خفيفة للكتب القديمة والأوراق المبعثرة على طاولات بعض الرواد، المكان ملتقى للغرباء الذين يجمعهم قاسم مشترك واحد، حبهم لهذا المكان.
لفت انتباهي رجل صامت، ربما في الستين من عمره، يرتدي بدلة رمادية أنيقة عفا عليها الزمن، وقبعة صغيرة مائلة على رأسه، يجلس وحيدًا، يحتسي قهوته ببطء شديد، وينظر بين الحين والآخر إلى الكرسي المقابل الفارغ، كأنه ينتظر أحدًا.
سألت صبي القهوة عنه، فابتسم:
"هذا الأستاذ كمال، يأتي كل خميس منذ خمسة عشر عامًا، يطلب فنجانين من القهوة، يشرب واحدًا، ويترك الآخر يبرد، لا أحد يجرؤ على الجلوس على الكرسي المقابل له."
"ومن ينتظر؟" سألته.
تردد الصبي، ثم همس: "كان متزوجًا من سيدة فرنسية، عاشت معه هنا سنين طويلة وأحبت المكان مثله تمامًا، توفيت قبل سنوات، لكنه ما زال يطلب لها قهوتها، يقول إنها تجلس معه وتحدثه، لكننا لا نراها."
في تلك اللحظة، فهمت شيئًا جوهريًا عن هذه الأماكن القديمة، إنها لا تحتضن الأحياء فحسب، بل تحتفظ بأرواح من رحلوا، كل ركن هنا مسكون بذكرى، كل طاولة تحكي قصة حب أو فراق أو لقاء لم يتم.
الرضا الغامض.. كيف تمنحك هذه الشوارع سلامًا لا تفهمه
الغريب أن زيارة واحدة لهذه الشوارع كفيلة بتغييرك من الداخل، ثمة طمأنينة غامضة تتسرب إلى روحك، كماء يتسلل بين شقوق الصخر، طمأنينة لا تستطيع تفسيرها، ولا تحتاج إلى تفسير.
ربما هي لحظة اتصال بماض أعمق، بجذور ممتدة في عمق التاريخ، أو ربما هي الشعور بأنك جزء من سلسلة بشرية طويلة، عابر صغير في مسار إنساني ممتد، أو ربما هي ببساطة جمال الزوايا والمساجد والبيوت القديمة.
على بعد خطوات من سيارتي، وجدت درويشًا عجوزًا يجلس القرفصاء، يسبّح بمسبحة خشبية متآكلة، عيناه مغمضتان، وعلى شفتيه ابتسامة غامضة، ثوبه الأبيض نظيف رغم بساطته، وعمامته الخضراء ملفوفة بإتقان، توقفت أمامه، فيما كان غارقًا في تسبيحه، غير مبالٍ بالعالم حوله.
فتح عينيه فجأة، نظر إليّ نظرة خارقة، كأنه يرى روحي لا جسدي، ابتسم، وقال بصوت هادئ:
"الطريق يجد السالك، لا العكس."
ثم أغمض عينيه وعاد إلى تسبيحه، وكأن شيئًا لم يكن.
جملة بسيطة، لكنها اخترقتني كالسهم، نعم، لم أختر أنا هذا المكان، بل هو من اختارني، كما لو أن هذه الشوارع القديمة أرسلت نداءً خفيًا عبر الزمن، فاستجبت له دون وعي.
لست أنا بعد اليوم
مع غروب الشمس، وأنا أهم بمغادرة المكان، أدركت حقيقة بسيطة، لست الشخص نفسه الذي دخل هنا في الصباح.
كل خطوة على هذه الأرصفة الحجرية تركت أثرًا غير مرئي فيّ، وكل نظرة إلى هذه الجدران حفرت نقشًا في روحي، كأن المكان أعاد تشكيلي، أضاف طبقة جديدة فوق طبقات وجودي، أو ربما كشف طبقة كانت مدفونة في أعماقي.
وتساءلت: هل نحن من نطأ الشوارع، أم هي من تمرّ فينا؟
أيهما يحتوي الآخر: نحن أم الأماكن؟ هل نحن عابرون في الزمان والمكان، أم أن الزمان والمكان يعبران من خلالنا، كالضوء عبر النافذة؟
لا أملك جوابًا، لكنني أملك شعورًا.
تركت المكان، لكنه لم يتركني.
0 تعليق