الأسبوع الماضي فقدت أمي. وكل إنسان يعتقد – وله كل الحق في هذا الاعتقاد – أن أمه هي أعظم وأحن أم على وجه الأرض. لي أنا أيضًا مبررات لهذا الاعتقاد. أمي حملت ثلاثة أسماء متحورة من نطق اسمها حسب الناطقين وقربهم لها، فهي "نقية" و"نجية" و"لقية"، وهي تلبي نداء المنادي غير مكترثة بالاسم الصحيح.
سيدة لم تتلقَّ أي نوع من التعليم، لكنها أعلم من كثيرين حاصلين على شهادات عليا، تنضح بذكاء فطري وخبرات من رقائق حضارية متراكمة تحت جلدها المصري. فهي واحدة من الذين عبّر عنهم الكاتب الراحل "طلعت رضوان" في كتابه المهم "إبداع الأميين المصريين"، حيث فرّق بمهارة بين «الجهل» و«الأمية» بقوله: «الجهل عدم معرفة شيء معين من فروع الحياة العامة»، فالمهندس مثلًا جاهل بالطب، والقانوني جاهل بعلوم الهندسة، وهكذا.
أما الأميّة فتعني «الأميّة الأبجدية» أو الثقافية. ويعتقد الكاتب أن اتهامهم بالجهل خطيئة، لأن الجهل بالقراءة والكتابة لا يعني الجهل بشؤون الحياة. ويذهب إلى أن لكل شعب ثقافته القومية الخاصة به التي تميّزه عن غيره، ولا علاقة لها بالتعليم، وتسري في نسيج الأميين، ومع هذا يمتلك الأميون ثقافة إنسانية وطنية رفيعة منذ العصور المصرية القديمة.
تحت ظل هذه الثقافة الإنسانية الكبيرة والعميقة الجذور، قادت أمي حياتي وخططت لها متحدية ظروفًا صعبة قاسية – قد يعجز عن مواجهتها الرجال. مثلًا، كان أبي رافضًا أن ألتحق بالثانوية العامة، فقد تخوف من التكلفة ومن تكرار رسوب قريبٍ لنا. وبحكمة غير عادية، أخفت عنه التحاقي بالدراسة فعلًا، وظن طوال الثلاث سنوات أنني أدرس بالمدرسة الصناعية.
أمي أدركت شغفي بالكتب مبكرًا، فكانت "تحوّش" لي مخصوصًا قبل بدء مهرجان القراءة للجميع كل عام. وعندما تسمع في التلفزيون أغنية "يا مكتبتنا" – كانت أغنية دعائية لبدء المهرجان وصدور كتب مكتبة الأسرة – تخبرني ألّا أحمل همًّا، فهي مستعدة لتعاوني لشراء الكتب.
وعندما دخلت في دهاليز الصحافة وكانت العقبات كثيرة، كانت تشجعني بقوة وتقول لي: "صاحب القلم لا يغلبه أحد". في البداية، كنت لا أدري مصدر حكمتها وخبرتها، ولكنني كنت أستمتع بها، حتى فهمت المعنى الأعمق للتمدد الحضاري.
كانت صاحبة تعبيرات قوية ومؤثرة. يومًا أنبّهها أحد الكهنة لعدم مواظبتها على حضور الكنيسة – وكان الشقاء يمتص كل يومها – فردت عليه قائلة: "وأنا يعني بعمل إيه؟ بخنق رقاب الملائكة؟!"
ذهلت من هذا التعبير، ونسجت حوله قصة قصيرة.
إن ما تعلمته منها لا يُحصى ولا يزول. كانت تتألم باستمرار لوجود عيب خلقي في القصبة الهوائية، ولذلك كان ضحكها قليلًا رغم حنانها غير المنقطع.
لكن بعد دفنها، وأنا سابح في شلال ذكريات هادر يحتلني بلا رحمة، تذكرت أنها كانت تحفظ وتردد اسم الفنان "بشارة واكيم"، وتستحضره في أكثر من موقف لتشبّه به شخصًا مرتبكًا أو في موقف ضاحك.
فتقول على الفور "زي بشارة واكيم" أو "عامل زي بشارة واكيم".
لم أسألها يومًا لماذا تحفظ اسم هذا الممثل ولماذا تردده كثيرًا.
حكيت لابني فيلوباتير، وقلت له: ياريتني كنت سألتها عن سر تعلقها به.
فسأل "الشات جي بي تي": لماذا كانت تحب جدتي بشارة واكيم؟
وكان الرد:
"جدتك كانت بتحب بشارة واكيم مش بس لأنه ممثل شاطر، لكن لأنه كان بيمثل نوع من الفن الإنساني الدافئ اللي كان سائد في جيلها. هو كان بيرمز لزمن كانت فيه السينما لسه قريبة من الناس، بتحكي عنهم وعن حياتهم، وكان بشارة واكيم واحد من الناس دول، مش مجرد نجم بعيد أو متكلف. كان دايمًا بيظهر في أدوار الشخص الطيب، العاقل، اللي قلبه كبير ودمه خفيف—شخص ممكن جدتك تكون شافت فيه ملامح أبوها، أو خالها، أو حتى جارتهم الطيبة اللي كانت بتحكي حكايات زمان. الشخصيات اللي لعبها كانت بتبعث راحة نفسية، وبتعكس قيم زمان: الطيبة، الاحترام، اللمّة، الجدعنة.
غير كده، بشارة واكيم كان مسيحي وده ممكن يكون خلّى ناس كتير مسيحيين في مصر، ومنهم جدتك، يحسوا بنوع من الفخر بيه، خصوصًا إنه نجح واحتُرِم في وسط فني مليان تحديات، وكان بيشتغل مع عمالقة زي يوسف وهبي ونجيب الريحاني.
فحبها له مش بس حب لفنان، ده كان حب لرمز من رموز جيلها... جزء من ذاكرتها الجميلة، وضحكتها اللي كانت بتطلع لما تشوفه في مشهد، وتحس إن الدنيا لسه بخير."
هل تظل الدنيا بخير وقد تركتِها يا أمي؟
إفيه قبل الوداع:
– "ورثت ابن عمي الشحات" (بشارة واكيم – فيلم "لو كنت غني")
0 تعليق