اندلعت مساء الإثنين اشتباكات مسلحة عنيفة في العاصمة الليبية طرابلس، في مشهد يعيد إلى الأذهان حالة الانفلات الأمني والفوضى الميليشياوية التي تعيشها ليبيا منذ سنوات. وقد أسفرت المواجهات، بحسب وسائل إعلام ليبية، عن مقتل عبد الغني الككلي، رئيس جهاز دعم الاستقرار التابع للمجلس الرئاسي، والملقب بـ"غنيوة"، وهو أحد أبرز القيادات الميدانية التي ظهرت عقب سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، وتحوّل لاحقًا إلى شخصية نافذة داخل البنية الشكلية للدولة في طرابلس.
جاء مقتل الككلي في ظروف غامضة داخل مقر "اللواء 444 قتال" التابع لمنطقة طرابلس العسكرية، وهي وحدة محسوبة على القوات النظامية لكنها، كغيرها من التشكيلات، تخضع لاعتبارات محلية وشخصية أكثر من خضوعها لهرم القيادة العسكرية الرسمية. وقد ترافق الحادث مع انتشار مكثف لمجموعات مسلحة في شوارع العاصمة، وسُمع دوي انفجارات واشتباكات بالأسلحة المتوسطة، ما أثار حالة من الهلع بين السكان ودفع السلطات إلى اتخاذ تدابير طارئة، شملت تعليق الدراسة وإغلاق بعض المرافق العامة.
لم تكن الاشتباكات مفاجئة، بل سبقتها أيام من التحشيدات العسكرية المتبادلة بين ميليشيات تنتمي إلى مدن مصراتة والزاوية والزنتان، على خلفية تصاعد التوتر بين جهاز دعم الاستقرار، الذي يقوده الككلي، و"القوة المشتركة مصراتة"، في ظل تنازع خفي على النفوذ داخل طرابلس ومحيطها. وقد كشف هذا التصعيد العسكري عن التصدعات العميقة داخل المعسكر الغربي نفسه، الذي لطالما روّج لوحدته في مواجهة الشرق، لكنه في الحقيقة يعاني من صراعات داخلية حادة تُدار بمنطق الغلبة لا بسيادة القانون.
المفارقة الكبرى أن عبدالغني الككلي، الذي قُتل في هذه الاشتباكات، لم يكن مجرد قائد ميداني، بل كان أحد رموز تحويل الميليشيات إلى أجهزة رسمية تتقاسم مؤسسات الدولة، وتمارس دورها من موقع السلطة لا من خارجها. وحين يُقتل مسؤول بهذا المستوى في قلب العاصمة، وفي مقر أمني رسمي، فإن الرسالة واضحة: ليبيا لا تزال بلا دولة، والميليشيات ما زالت هي الحاكم الفعلي، تتحكم في مسار البلاد من وراء ستار الشرعية، وتجعل من العاصمة ساحة صراع دائم تُكتب فصوله بالرصاص والدم.
صراع الميليشيات.. حرب لا تنتهي
منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، دخلت ليبيا في مرحلة فراغ مؤسساتي عميق، تُركت فيها الدولة دون جيش موحّد أو أجهزة أمنية قادرة على فرض السيطرة. وفي هذا الفراغ، نشأت عشرات الميليشيات المسلحة، معظمها تشكّل على أسس مناطقية أو قبلية، فيما ارتبط بعضها بأجندات أيديولوجية أو مصالح خارجية. هذه الجماعات، التي وُلدت بدعوى "حماية الثورة"، سرعان ما تحولت إلى أمر واقع يفرض نفسه بقوة السلاح، وأصبحت اللاعب الأساسي في معادلة السلطة والنفوذ.
ومع مرور السنوات، تعمّق حضور هذه الميليشيات داخل البنية السياسية والعسكرية للدولة، إذ لم تجرؤ الحكومات المتعاقبة سواء في الشرق أو الغرب على مواجهتها أو تفكيكها، بل لجأت إلى استرضائها بدمج قادتها في أجهزة أمنية رسمية، ومنحهم صلاحيات إدارية ومالية واسعة. بهذه الطريقة، تحولت الميليشيات إلى "شبه دولة داخل الدولة"، تمتلك السلاح والموارد، وتتحكم في القرار الأمني والعسكري، بل وتشارك أحيانًا في صناعة القرار السياسي ذاته.
عبدالغني الككلي، المعروف بـ"غنيوة"، كان تجسيدًا حيًا لهذا النموذج. بدأ مسيرته كأحد قادة المجموعات المسلحة في طرابلس، ثم صعد تدريجيًا ليصبح رئيسًا لجهاز دعم الاستقرار، أحد أكثر التشكيلات الأمنية نفوذًا في العاصمة. ورغم أنه كان يحتل موقعًا رسميًا تحت مظلة المجلس الرئاسي، إلا أن نفوذه الحقيقي كان يستند إلى قوته الميليشياوية، وشبكة المصالح التي بناها من خلال السيطرة على مفاصل أمنية حساسة، بما في ذلك السجون والطرق والمنشآت الحيوية.
هذا التداخل بين ما هو رسمي وما هو ميليشياوي أدى إلى إرباك المشهد الليبي وتعقيده، حيث لم تعد هناك خطوط فاصلة بين الدولة والعصابة. وبات من الواضح أن الدولة الليبية – في صورتها الحالية – لا تستطيع التحرر من قبضة المجموعات المسلحة، لأنها تقوم فعليًا على تحالف هش معها. فالميليشيات لا تعترف بشرعية الدولة إلا بقدر ما تضمن لها البقاء والهيمنة، ما يجعل أي محاولة للإصلاح أو التغيير محكومة بالفشل طالما أن السلاح لا يزال هو المرجع الأعلى للنفوذ والشرعية.
سياق معقّد وتحشيدات خطيرة
الاشتباكات الأخيرة التي اندلعت في العاصمة طرابلس لم تكن وليدة اللحظة، بل سبقتها تحركات وتحشيدات ميدانية واضحة من قبل ميليشيات قادمة من مدن الزاوية ومصراتة والزنتان، وكلها تُعد من القوى الرئيسية ضمن المعسكر الغربي في ليبيا. هذه التحركات لم تكن مجرد استعراض عضلات، بل كانت تشير إلى تصعيد محتمل وخلافات متفاقمة بين مراكز نفوذ متداخلة تتنازع السيطرة داخل "المعسكر الواحد"، في مشهد يُنذر بانفجار داخلي قد يكون أكثر تدميرًا من صراع الشرق والغرب التقليدي.
الأخطر في هذا السياق أن الصراع لم يعد يدور حول خلافات أيديولوجية أو انقسامات جهوية صريحة، بل بات صراعًا مفتوحًا على مراكز القوة داخل العاصمة نفسها. ما يجري هو إعادة رسم لخريطة النفوذ الأمني والسياسي، حيث تتقاتل التشكيلات المسلحة على الثروات والموارد ومواقع السيطرة، مستخدمة ما تملكه من سلاح وغطاء سياسي هش، ما يجعل العاصمة طرابلس مسرحًا دائمًا لاحتمالات الانفجار، بلا ضمانات لأي استقرار حقيقي.
في موازاة هذه المواجهات، أصدرت السلطات قرارات أمنية عاجلة تعكس حجم الخطر المتصاعد، كان أبرزها تعليق الدراسة والامتحانات في جامعة طرابلس، ورفع حالة التأهب في جهاز الإسعاف والطوارئ، وإغلاق عدد من الطرق الحيوية. كما تم تحويل الرحلات الجوية من مطار طرابلس إلى مطار مصراتة، في مؤشر واضح على حجم الارتباك والشلل الذي أصاب عمل المؤسسات المدنية، مما يؤكد أن العاصمة لم تعد آمنة حتى لمواطنيها، فضلًا عن زوارها أو العاملين فيها.
كل هذه المؤشرات تكشف مدى هشاشة الوضع الأمني، وتفضح فشل الدولة في احتكار استخدام القوة. فالسلطة المركزية، التي يُفترض أن تكون المرجعية الوحيدة للقرارات الأمنية والعسكرية، تبدو عاجزة عن احتواء النزاع أو فرض التهدئة، بل تُجبر على التكيّف مع موازين قوى تفرضها الجماعات المسلحة. إن استمرار هذا الوضع لا يهدد فقط أمن العاصمة، بل يفتح الباب أمام مزيد من الفوضى والاقتتال الأهلي، في ظل غياب مشروع وطني جامع، وقدرة حقيقية على نزع سلاح الميليشيات أو احتوائها ضمن بنية دولة محترفة وقانونية.
تداعيات إقليمية محتملة
الأزمة الليبية، التي تعود جذورها إلى انهيار الدولة بعد عام 2011، لم تبقَ محصورة داخل الحدود الجغرافية للبلاد. فليبيا ليست دولة معزولة، بل تتقاطع مع محيطها الإقليمي في تشابكات أمنية واقتصادية وديمغرافية معقدة، تجعل من كل اضطراب داخلي تهديدًا مباشرًا لجيرانها. فدول مثل تونس ومصر وتشاد والنيجر تجد نفسها، في كل جولة عنف داخل ليبيا، في مواجهة تداعيات لا تملك السيطرة عليها، مثل تدفق اللاجئين، وتسرب الأسلحة، وازدهار شبكات التهريب والهجرة غير الشرعية.
وتُعدّ الحدود الجنوبية لليبيا، الممتدة على مساحة واسعة وغير محروسة بشكل فعّال، واحدة من أكثر المناطق هشاشة في شمال إفريقيا. ومع كل تراجع في السيطرة الأمنية داخل الدولة الليبية، تبرز هذه المناطق كملاذ آمن للجماعات المتطرفة والتنظيمات العابرة للحدود، مثل "داعش" و"القاعدة". هذه التنظيمات تستفيد من حالة الفوضى وتستغل الانقسامات بين الميليشيات لتجنيد عناصر جديدة، ونقل الأسلحة، والتخطيط لعمليات خارج الحدود، ما يجعل الجنوب الليبي بمثابة قاعدة خلفية للتمدد نحو منطقة الساحل الإفريقي.
إلى جانب الجماعات الإرهابية، فإن الوضع في ليبيا يتيح أيضًا الفرصة لشبكات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، التي تنشط في تهريب البشر والمخدرات والسلاح. فمع انكشاف أجهزة الدولة، تتحول الأراضي الليبية إلى ممرات آمنة لهذه الشبكات، التي لا تتسبب فقط في تفاقم الأزمة المحلية، بل تنعكس بشكل مباشر على أمن واستقرار دول المتوسط، وخصوصًا في جنوب أوروبا، التي تعاني من موجات هجرة غير منظمة تنطلق من السواحل الليبية.
ولا يمكن تجاهل البُعد الجيوسياسي للأزمة، إذ أن تعدد القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في الشأن الليبي، عبر دعم ميليشيات أو أطراف سياسية متصارعة، يزيد من تعقيد الصراع، ويُطيل أمده. تتحول ليبيا في هذا السياق إلى ساحة لتصفية الحسابات بين قوى دولية تسعى لتحقيق مصالحها على حساب سيادة الدولة الليبية. ومع غياب مشروع وطني موحد، فإن هذا التداخل الإقليمي والدولي يهدد بإعادة إنتاج الفوضى، ويجعل أي حل سياسي هشًا وقابلًا للانهيار في أي لحظة.
الحاجة إلى مشروع تفكيك الميليشيات
لا يمكن الحديث عن استقرار حقيقي في ليبيا دون معالجة الجذر العميق للأزمة، وهو الوجود الميليشياوي المتغوّل في مفاصل الدولة. فالتحدي المركزي لأي عملية سياسية مستدامة لا يكمن فقط في التوفيق بين الحكومات المتنازعة أو تنظيم الانتخابات، بل في القدرة على تفكيك المنظومة المسلحة غير النظامية التي باتت تتقاسم النفوذ والسيادة. إنهاء هذا الواقع يتطلب خطة وطنية واضحة لتجريد الجماعات المسلحة من السلاح، وإعادة هيكلة مؤسسات الأمن وبناء جيش وشرطة مهنيين، يحتكران استخدام القوة ضمن القانون وتحت سلطة مدنية شرعية.
لكن هذا المشروع يظل معلقًا في الهواء ما لم تتوفر إرادة سياسية صلبة من الداخل، وموقف دولي موحد يدعمه. الواقع اليوم يُظهر العكس تمامًا؛ فالأطراف المحلية غارقة في حسابات النفوذ الضيقة، بينما المجتمع الدولي منقسم ومتناقض في تعاطيه مع الملف الليبي، إذ تدعم بعض الدول ميليشيات بعينها كأدوات نفوذ سياسي وأمني. وبعثة الأمم المتحدة، رغم دعواتها المتكررة لوقف التصعيد، تبدو عاجزة عن فرض إجراءات فعالة على الأرض، في ظل غياب أدوات الضغط اللازمة وارتباك الدور الأممي.
المفارقة المؤلمة أن جزءًا كبيرًا من هذه الجماعات المسلحة لا ينشط في الظل، بل يتغذى على شرعية الدولة نفسها. فالكثير من الميليشيات تتلقى تمويلًا رسميًا من الحكومة، وتُدمج شكليًا ضمن أجهزة الدولة الأمنية أو الإدارية، ما يمنحها غطاء قانونيًا ونهارًا، بينما تواصل فرض منطقها كعصابات مسلحة ليلًا. هذا التداخل بين الميليشياوي والرسمي لا يربك فقط المشهد الأمني، بل يخلق بنية مزدوجة تُضعف مؤسسات الدولة وتفقد المواطن ثقته بها.
ما دام هذا الوضع مستمرًا، فإن أي حديث عن انتخابات حرة أو مصالحة وطنية سيبقى مجرد شعارات جوفاء. فالمناخ الذي تُسيطر عليه فوهات البنادق، وتُدار فيه السياسة من خلال استعراضات السلاح، لا يمكن أن ينتج حياة ديمقراطية أو عدالة انتقالية. المطلوب اليوم ليس فقط تفكيك الميليشيات، بل تفكيك الثقافة التي شرعنت وجودها، وإرساء مشروع وطني جامع يتجاوز منطق المحاصصة ويؤمن بأن بناء الدولة لا يكون إلا عبر نزع السلاح من أيدي الفصائل، وإعادته إلى حضن القانون.
الخلاصة
ما حدث في طرابلس ليس مجرد اشتباك بين مجموعتين، بل مؤشر خطير على طبيعة الأزمة الليبية التي تجاوزت السياسة، ودخلت طور التوحّش الميليشياوي. استمرار هذا المسار لا يهدد ليبيا وحدها، بل يفتح أبوابًا جديدة للفوضى في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل، ويمنح الإرهاب تربة خصبة للنمو. لقد آن الأوان لمقاربة حقيقية تقوم على نزع السلاح، ومحاسبة أمراء الحرب، لا على التوازن بينهم.
0 تعليق