هل أضحى "الغش" في الامتحان حقا مكتسبا؟

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
هل أضحى
محمد حمدانيالإثنين 2 يونيو 2025 - 00:00

عرف عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (Émile Durkheim).الظاهرة الاجتماعية في كتابه “قواعد المنهج في علم الاجتماع” (Les Règles de la Méthode Sociologique) بأنها: كل طريقة في الفعل، ثابتة كانت أم غير ثابتة، قادرة على ممارسة قهر خارجي على الفرد؛ أو بعبارة أخرى، كل طريقة في الفعل تكون عامة في مجتمع معين، ولها وجود خاص بها، مستقل عن مظاهرها الفردية. وهي على هذا الأساس نوع أو نمط من السلوك أو التفكير أو الشعور الذي ينتشر بين أفراد المجتمع أو مجموعة اجتماعية معينة، ويكون له تأثير على حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية؛ إذ يصبح طريقة معتادة للتصرف أو التفكير أو الإحساس يشترك فيها عدد كبير من الناس في مجتمع ما.

وإذا حاولنا تطبيق هذا التعريف المرَكّز على ظاهرة الغش في الامتحان عموما، والامتحانات الإشهادية على وجه الخصوص، فإننا لا نجد كثير عناء في وسمها بالظاهرة الاجتماعية، باعتبارها أضحت نمطا من التفكير والسلوك، ليس فقط في صفوف الفئة المعنية بهذه الامتحانات من تلاميذ وطلبة، بل تجاوزتهما لفئات أخرى من المجتمع القريب والبعيد من الدائرة الضيقة لهؤلاء المترشحين لهذه الامتحانات.

وبالنظر لما لامتحانات الباكالوريا من أهمية في المسار الدراسي للتلاميذ والطلبة وأولياء أمورهم والقائمين على الشأن التربوي في بلادنا، وما يتصل بذلك من قطاعات تكوينية وإنتاجية في مختلف المستويات، فإن “ظاهرة الغش” تبرز على المحك، باعتبارها ممارسة وسلوكا يقدح في صِدْقية وقيمة شهادة مؤسِّسَة لباقي الشواهد الأخرى، ويسائل كل المؤسسات الاجتماعية المعنية بالشأن التعليمي والتربوي والديني والإعلامي والاقتصادي وغيرها، لما لذلك من ترابطات عضوية لكل الفاعلين في كل تلك المؤسسات، لأن تلوث عين الماء في عالية الوادي يؤدي حتما إلى تلويث باقي العناصر التي تسقى منها في سافلته، ما لم تتدخل آليات إصلاحها أو التخفيف من شدة تلوث مائها في محطة من محطات الطريق على الأقل.

ولأن غرضي من هذه “الصرخة” ليس الوقوف عند أسباب ودواعي ظاهرة الغش في الامتحان والأطراف المتدخلة والمشاركة فيها؛ إذ يتبارى العديد من الفاعلين التربويين والدينيين والإعلاميين للحديث عنها وفرز خيوطها والتحذير من خطورتها في هذه المناسبات وغيرها، فإنني سأحاول الوقوف عند شعور وفكر جمْعي تحولي مرتبط بهذه الظاهرة، أرى فيه تطبيعا مع فعل تُجمع القواعد الاجتماعية والأخلاقية والدينية والقانونية على قبحه وانتفائه مع حسن السلوك ومنظومة القيم الجامعة، ألا وهو الشعور بأحقية هؤلاء المترشحين لهذه الامتحانات في اللجوء لكل وسائل الغش التقليدية وغير التقليدية التي تسمح لهم بتسويد أوراق الامتحان وملء الفراغات ونيل أعلى الدرجات؛ إذ الغاية تبرر الوسيلة حسب هؤلاء، موظفين قاموسا أحال الباطل حقا، والقبح حسنا والانتهازية نبلا والشر خيرا … فتحول هذا السلوك، الذي لم يكن يجمل بمقترفه فيما سبق الإفصاح عنه إذ هو يقدح في ذاته وكفاءته، إلى “حق طبيعي” يمكن ممارسته في العلن والافتخار به من أعلى المنابر وكأنه فتح مبين وانتصار مظفر مجيد.

الأسوأ من ذلك، في نظرنا، أن يعتقد البعض القريب من دائرة هؤلاء المترشحين أو حتى البعيدون، أن فعل الغش في الامتحان حق مكتسب للمترشحة والمترشح، مكيلين لمن يسلبه منهما أو يقف في وجه هذا السلوك ويتصدى له، ما تجود به قريحتهم عليه من سباب وشتائم ودعوات بالويل والثبور وسوء العاقبة، واعتباره ممن يعيش خارج التاريخ والجغرافيا ومستجدات الزمن. فيتحول، والأمر كذلك، كل من وقف في وجه هذا التيار أو عاكسه إلى نشاز غريب لا عزاء له إلا قول المصطفى عليه السلام “فطوبى للغرباء” (رواه مسلم).

إن أسوء ما في هذا الشعور الجمعي، حسب اعتقادنا، أن يدثَّر بوشاح المشروعية الاجتماعية ويصير سلوكا “عاديا” لا يثير في مقترفه والمتستر عليه وداعمه ومحتضنه وحتى البعيد عنه، أي نوع من الإنكار أو الإحراج أو تأنيب الضمير، ويلبس بلبوس الشطارة والشجاعة، وتنصب له المنابر وتفتح له الميكروفونات وعدسات الكاميرات، ويروج له بين الناس في مختلف الوسائط والمنتديات للتفكه حينا، والهجوم على ما تبقى من حصون العلم والتعليم والمؤمنين برسالته والقابضين على جمره أحيانا أخرى.

ولأن الظاهرة الاجتماعية في حد ذاتها معقدة البناء ومتشابكة الخيوط والمداخل والمآلات، فلا يمكننا، والأمر كذلك، أن نجزم بوجاهة حل وحيد قادر على فك طلاسم الظاهرة وتجاوز آثارها السلبية القريبة والبعيدة، فإننا نعتقد أن إعادة النظر في مناهج وبرامج التعليم والتقويم بما يسهم في الارتقاء بالمتعلم سلوكا وقيَّمًا، وتكوين الفاعلين التربويين تكوينا متينا يقوم على الاستحقاق ودعم الكفاءات، وإعطائها المكانة الاجتماعية المستحقة التي تعزز لدى الناشئة مبادئ القدوة والرقي القيمي القائم على الصدق والأمانة العلمية، وحصر الظواهر السلبية المشينة في خانة الاستثناء الذي لا يجمل بالمرء القياس عليه أو تقليده بلْهَ دعمه والتعريف به وجعله فاكهة للمجالس والمنتديات، وذلك بتشجيع قيم الجد والاجتهاد والتنويه بالمتخلقين بها تربويا والاحتفاء بهم إعلاميا واجتماعيا، في أفق تنشئة أجيال تتحلى بصفات النزاهة وتقدر المسؤولية وتحافظ على القيم الاجتماعية المرعية.

مستشار التوجيه التربوي
وزارة التربية الوطنية – المملكة المغربية

النشرة الإخبارية

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدة هسبريس، لتصلك آخر الأخبار يوميا

اشترك

يرجى التحقق من البريد الإلكتروني

لإتمام عملية الاشتراك .. اتبع الخطوات المذكورة في البريد الإلكتروني لتأكيد الاشتراك.

لا يمكن إضافة هذا البريد الإلكتروني إلى هذه القائمة. الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني مختلف.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق