فى صمت مشبع بالرهبة، وفى أعماق لا تطالها الكاميرات ولا تغزوها الطائرات المسيّرة، تخوض إيران وإسرائيل واحدة من أكثر حروب التجسس تعقيدا فى الشرق الأوسط، فالحرب الحالية ليست مجرد مواجهة تقليدية تدور فوق الأرض، بل هى معركة فى الباطن، تديرها أجهزة استخباراتية ماهرة فى التخفي، وتنفذها عقول وأجساد تتحرك تحت أقنعة الحياة اليومية، إنها حرب الجواسيس، حيث يصبح الإنسان نفسه سلاحا، ويتحول الساكن العادى إلى كاميرا حية تخترق الممنوع وتستخرج الأسرار.
خلال الأشهر القليلة الماضية، وقبيل تصاعد العمليات العسكرية المفتوحة بين طهران وتل أبيب، كشفت إيران عن تفكيك شبكات تجسس وصفتها بأنها الأخطر منذ سنوات، تنسب إلى جهاز الاستخبارات الإسرائيلى "الموساد". جاء هذا فى سلسلة بيانات رسمية صادرة عن وزارة الأمن الإيرانية، مدعومة بإعلانات متفرقة من القضاء الإيراني، أظهرت أن الهجوم الإسرائيلى على إيران لم يمر عبر الجو فحسب، بل عبر قاعات الاجتماعات فى الفنادق، ومراكز التجارة، وشقق سكنية هادئة تدار منها عمليات على مستوى عال من الخطورة.
اللافت فى تلك الإعلانات ليس فقط عدد المقبوض عليهم، بل نوعية المهام التى كلفوا بها، والتى كشفت عن اختراق عميق ومركب يستهدف بنية الدولة الإيرانية من الداخل، إذ لم تكن المهام مقتصرة على جمع المعلومات أو تصوير المواقع، بل طالت عمليات اغتيال تم تنفيذها بدقة متناهية، وزرع أجهزة، وتسهيل دخول طائرات مسيّرة إلى العمق الإيراني، وكل ذلك وفق سردية إيرانية مدعومة بوقائع وأحكام أصدرتها المحاكم الثورية.
واحدة من أبرز القضايا التى زلزلت الداخل الإيرانى كانت قضية محسن لانكرنشين، الذى نفذ فيه حكم الإعدام فى أبريل ٢٠٢٥ بعد إدانته بالتجسس لصالح الموساد، فى تفاصيل هذه القضية، التى نشرتها وكالة أنباء "ارنا" الإيرانية، بدا الجاسوس وكأنه وحدة عسكرية متكاملة، التقى بضباط من الموساد فى جورجيا ونيبال، وفر معلومات تقنية وسيبرانية مهمة، وشارك فى تحديد موقع الضابط بالحرس الثورى حسن صياد خدائى قبل اغتياله فى طهران عام ٢٠٢٢.
قضية أخرى حملت دلالات لا تقل خطورة، وهى قضية پدرام مدني، الذى أُعدم أيضا فى نفس الشهر بعد إدانته بتسريب معلومات عن البنية التحتية للطاقة لصالح إسرائيل. كلاهما لم يكن موظفا بسيطا أو ناشطا غاضبا، بل تم تجنيدهما عبر وسائل دقيقة، وتكليفهما بمهام تتقاطع فيها السياسة بالأمن، واللوجستيات بالخرائط العسكرية، ضمن ما وصفته إيران بـ"هجوم مركب يجرى من الداخل".
ولم تكن هذه العمليات معزولة أو وليدة لحظة طارئة، بل جزء من استراتيجية استخباراتية تنفذها إسرائيل منذ سنوات داخل الأراضى الإيرانية عبر تشكيل خلايا نائمة وفعالة فى وقتٍ واحد. ووفقًا لما نشرته "وكالة فارس" الإيرانية، فإن أجهزة الأمن تمكنت منذ مطلع ٢٠٢٤ من تفكيك عدة خلايا تجسس إسرائيلية فى محافظات متفرقة مثل مازندران، وقم، وأردبيل، بعضها استخدم شركات تجارية ومنظمات ثقافية كغطاء للتحرك، فيما تحصن بعضها الآخر خلف واجهات دينية أو حتى إنسانية.
ولم تتوقف مهام هذه الشبكات عند جمع المعلومات، بل شملت التخطيط لهجمات ضد منشآت صناعية، والتجسس على تحركات علماء الذرة، والتخريب عبر تقنيات إلكترونية متقدمة، بل إن بعض الشبكات كانت مكلفة بإنشاء "قواعد محلية" للطائرات المسيرة داخل إيران، يتم من خلالها شن هجمات دقيقة دون الحاجة إلى طائرات خارجية، كما حصل فى الهجوم على منشأة أصفهان الدفاعية بداية عام ٢٠٢٣، والذى قالت إيران إنه تم بواسطة خلايا داخلية عملت بالتنسيق مع عناصر خارج الحدود.
تزامن ذلك مع تطور فى أدوات الحرب السيبرانية الإسرائيلية التى استهدفت، حسب الرواية الإيرانية، أنظمة التحكم فى محطات الطاقة والمياه ومراكز الاتصالات، غير أن هذه العمليات التقنية لم تكن لتنجح لولا الدعم البشرى على الأرض، وهو ما يجعل الجاسوس فى قلب المعركة، لا على هامشها.
وطهران لم تكن وحدها المستهدفة من إسرائيل، فقد كشفت إسرائيل أيضا عن عدة محاولات إيرانية لتجنيد مواطنين إسرائيليين عبر الإنترنت. إحدى هذه القضايا التى هزت الرأى العام تضمنت القبض على طفل يبلغ من العمر ١٣ عاما ونصف العام بتهمة التجسس فى تل أبيب، حيث اتهمته الشرطة الإسرائيلية بـ"تنفيذ مهام" كلفته إيران بها، مثل رش "جرافيتي" معادٍ للنظام فى تل أبيب وتصوير القبة الحديدية. فى التحقيقات، قال المراهق إن هناك عملاء إيرانيين حفزوه على تنفيذ هذه المهام مقابل مبلغ من المال عبر برنامج "تليجرام".
كما أن إيران استغلت وسائل التواصل الاجتماعى وتواصلت مع مواطنين إسرائيليين وعرضت تصوير منازل مسئولين أمنيين مقابل ملايين الدولارات الأمريكية، وكُشف لاحقًا أن من يتواصل معهم فى الجهة الأخرى كانت حسابات وهمية مدارة من ضباط فى الحرس الثورى الإيرانى منتحلين هوية فتيات أوروبيات.
هذه الحرب المزدوجة – التى يتجسس فيها كل طرف داخل قلب الآخر – أعادت الجدل داخل الأوساط الأمنية الدولية حول جدوى التكنولوجيا مقابل الجاسوس البشري.
فبينما تقدم الأقمار الصناعية صورًا بدقة مذهلة، وتستطيع الطائرات المسيّرة تنفيذ عمليات هجومية دون طيار، يبقى الجاسوس على الأرض هو "العين العمياء" التى يمكنها رؤية ما لا تراه الأقمار، وسماع ما لا تلتقطه الميكروفونات، واتخاذ قرارات آنية لا تقدر عليها الخوارزميات.
وهو ما يفسر إصرار إسرائيل، بحسب خبراء فى الشأن الأمني، على زرع عناصر محلية داخل إيران حتى مع امتلاكها لأقوى أنظمة الرصد والمراقبة فى الشرق الأوسط. فالمعلومات الحاسمة، كتحرّك مسئول من منزله، أو غياب حارس من بوابة، أو خلاف داخلى فى منشأة نووية، لا يمكن أن تُلتقط من السماء.
لكن إيران، فى سعيها لإظهار سيطرتها، تروج لما قامت به من الاعتقالات بوصفها انتصارًا أمنيا ورسالة سياسية. ففى كل إعلان عن تفكيك شبكة أو تنفيذ حكم إعدام، تظهر النبرة الخطابية واضحة تقول إن الدولة قادرة على حماية نفسها، والمتسللين لن ينجوا، وتأتى هذه الرسائل فى وقت تعيش فيه إيران تحديات داخلية حادة، من احتجاجات إلى أزمات اقتصادية، ما يمنح هذه الإعلانات طابعًا دعائيًا داخليًا بقدر ما هو تحذير خارجي.
وإذا كانت الرواية الإيرانية تحمل قدرًا من التضخيم، فإن الرواية الإسرائيلية لا تقل عنها استخدامًا للإعلام، ففى تقرير نشرته صحيفة "جيروزاليم بوست" مؤخرًا، أشارت إلى أن "الموساد" نجح فى الوصول إلى عمقٍ لم يسبق له مثيل فى إيران، وأن عملياته الأخيرة أثبتت أن النظام الإيرانى بات مفضوحًا أمنيًا من الداخل، لكن مثل هذه التصريحات لا تنفى أن طهران تمكنت بالفعل من كشف خلايا وتفكيك شبكات، وبعضها على صلة مباشرة باغتيالات وقعت بالفعل.
إنها إذًا حرب لا تعترف بالحدود، ولا تُقاس بالخسائر المادية، بل بما يُكشَف وما يُخفى، بما يُعلَن وما يُدار خلف الكواليس، حرب لا بطل فيها يُكرّم علنًا، بل وجوه تُنسى أو تُخفى، وأسماء تُعدَم أو تُمحى، لكنها جميعًا تشكّل خيوطًا فى شبكة تجسس هى الأكثر ديناميكية فى المنطقة.
وفى هذا المشهد شديد التعقيد، يبدو أن الجاسوس – لا الطائرة ولا الصاروخ – هو الذى يحدد نقطة البداية. الجاسوس، لا يقتل مباشرة، لكنه يُخبر القاتل متى وأين وكيف، هو من يفتح الباب، أو يترك النافذة مواربة، هو من يحمل المفتاح دون أن يعلم أحد بوجوده.
ربما لهذا السبب، حين تتصارع التكنولوجيا والذكاء البشري، تبقى الكلمة الأخيرة دائما لمن يعرف كيف يتخفى، والجاسوس، فى هذه الحرب، لا يختبئ فقط من العدو، بل من الذاكرة أيضًا.

0 تعليق