صنع الله إبراهيم.. عينٌ مفتوحةٌ في غُرفة مُغلقة

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

آراء حرة

السبت 03/مايو/2025 - 11:48 م

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كان يمكن لصنع الله إبراهيم أن يكتب بلغةٍ صلبة كالحجر، أو أن يتكئ على صرخاتٍ عاليةٍ تُرضي الجماهير وتُشعل المديح، لكنه، منذ بدايته، اختار أن يمشي في الممر الأضيق، أن يكتفي بوهجٍ خافت، أن يُقيم في النص لا في الواجهة، وأن يصوغ الكتابة كما يصوغُ الناسُ حزنهم: بهدوءٍ، بتوترٍ، بخوفٍ خفيفٍ من أن تُسيء اللغة فهمهم. لم يكن الكاتب الذي يُسلّم نفسه إلى المجاز، بل المجاز هو من كان يزحف نحوه، على أطراف أصابعه، طالبًا ملاذًا في جملةٍ لا تدّعي شيئًا، لكنها تعرف كل شيء.
ولد صنع الله إبراهيم في مصر، لكنه وُلِد أكثر من مرة. وُلِد حين فُتح له باب السجن، وولد حين أُغلِق عليه الباب نفسه. وُلِد حين كتب روايته الأولى، وولد حين مُنعت، وولد مرةً ثالثة حين قرأها أحدهم في زاويةٍ ضيقة، بعد أن يئس من الكتب المسموح بها. ذلك أن الكاتب لا يُقاس بعدد الكتب المطبوعة، بل بعدد الأرواح التي وجد فيها نصّه مكانًا، ولو عابرًا، ولو كظلٍّ على جدارٍ لا يراه أحد.
في وقتٍ كان يُغري بالزخرفة، اختار صنع الله أن يتقشّف. أن يترك على الورقة البياض أكثر مما يكتب، أن يجعل من الصمت قرينةً للمعنى. لغته ليست جامدة، بل ممسوحة من الغرور، مُجرّدة من الزينة، كأنها جسدٌ خرج من حريق، يحتفظ فقط بما لا يحترق. في رواياته، لا يلهث القارئ خلف التشويق، بل يسير إلى جوار النص، كما يسير بجوار رفيقٍ عائدٍ من منفى طويل، يروي، لا ليبكي، بل ليستعيد شيئًا خفيفًا، كأن يقول: "أنا هنا"، ولو مرة.
من رواية تلك الرائحة، بدأ صنع الله يكتب كمن يتلمّس أثر صوته بعد سنواتٍ من الصمت. بطل الرواية عائد من سجن، لكنه لا يحمل خطابًا، ولا بيانًا، بل يحمل فراغًا، نوعًا من الصمت الداخلي، هشاشةً في العين، تردّدًا في الكلمات. كانت تلك الرواية أولى العلامات على أن الكاتب لا يُريد البطولة، بل يريد الإنسان. الإنسان حين يتلفّت حوله فلا يجد إلا الوهم. حين ينظر في المرآة فيرى آخر. حين يقرأ جريدة، فيشعر أن الحياة كلها تُكتب لغيره.
ثم جاءت "اللجنة"، ككابوسٍ صغير، مروّض، يُغريك بالدخول فيه حتى حين تعرف أنه بلا مخرج. اللجنة، بما تحمله من غموضٍ وعبث، ليست سلطةً مرئية فقط، بل هي استعارة لكل سلطة خفية، لكل سؤالٍ يُسأل بلا نية للفهم، لكل استجوابٍ يبدأ ولا ينتهي. في هذه الرواية، كان صنع الله كمن يكتب عن الداخل وهو متنكّر بوجه الخارج. كمن يفضح المدينة من خلال مبناها، والقهر من خلال إجراءاته الإدارية. لم يكن ثوريًا بالمعنى المباشر، بل كان حزينًا بعمق، والحزن الحقيقي دائمًا هو شكلٌ ناعمٌ من أشكال التمرّد.
في "ذات"، كتب عن امرأةٍ تُراقب العالم من نافذتها، كما تُراقب الأيام نضج الجرح. امرأة تُولد وتشيخ في بلدٍ يتغير دون أن يتبدل، تتحوّل حياتها اليومية إلى مرآةٍ متشققة لبلدٍ لا يتذكر أسماء ناسه. تتقاطع قصتها مع الأخبار، مع الإعلانات، مع النشرات الرسمية، في بناءٍ روائي يشبه دفترَ يومياتٍ تُرك في بيتٍ قديم، وظلّ ينبض رغم الغبار. ولعلّ هذه الرواية، في رقتها العميقة، من أكثر ما كتب صنع الله صدقًا، وأكثرها التباسًا. لم تكن روايةً عن امرأة فقط، بل عن وطنٍ مجروح، عن كائنٍ جماعيٍّ يُقمع بابتسامة.
وربما كانت "شرف" ذروة خفوت هذا الألم، رواية ليست صرخة، بل نشيج مكتوم. شاب يُسجن بسبب جريمة شرف، لكنه داخل السجن يكتشف أن الشرف، كفكرة، مجرّد شعارٍ يتكسّر على أول جدار. السجن في الرواية ليس مكانًا فقط، بل هو العالم كما هو، مجرّد من أي زيف، حيث لا سلطة تغطّي نفسها بالحجة، بل تُمارَس كأمرٍ عادي، يومي، لا يحتاج إلى مبررات. وكأن الرواية تقول: لسنا في سجنٍ، بل نحن خارج الوهم. كل ما عداه كان وهْمًا.
لكن ما يجعل صنع الله إبراهيم كاتبًا مختلفًا، ليس فقط كتابته عن القهر، بل كتابته من داخله. ليس لأنه عاش السجن، بل لأنه لم يسمح للسجن أن يغادره بسهولة. بقي فيه، مثل حنينٍ ثقيل، لا يُغني، ولا يُنسى. كل كتاباته، على اختلاف مواضيعها، كانت محاولة لاستعادة الصوت وسط الزيف. لم يكتب ليُدهش، بل ليُسائل. لم يكتب ليُعجب، بل ليُوقظ. وحتى حين تُغريك جمله ببساطتها، فإنها تفعل ذلك كما يفعل الجرح حين ينسدل على الجلد بلطف.
هو كاتبٌ لا يحب أن يكون محط الأنظار. يكتفي بأن يُقرأ. أن يُشعِر القارئ بأن هناك من يكتب عنه، لا إليه. لم يكن نبيًا، ولم يدّعِ النبوة، لكنه ظلّ وفيًا لما آمن به، حتى وإن تغيّر كل شيء. لم يبع صوته، ولا استبدله بلغةٍ تُرضي هذا الطرف أو ذاك. لم يُساوم، لا على الجملة، ولا على الموقف. وحين رفض جائزة الدولة، لم يكن يصرخ، بل كان يهمس: "الكتابة لا تُكافأ، بل تُصدّق".
إن الكتابة، حين تمرّ عبر صنع الله إبراهيم، تتحوّل إلى نوعٍ من التنقيب البطيء في تربة الوعي. ليست عاصفة، بل رياحًا خفيفة، لكنها قادرة على زحزحة الجبال. هو كاتبٌ هشّ، لا لأنه ضعيف، بل لأنه قرر أن يكتب دون أن يتكئ. أن يواجه الخوف بالورقة، لا بالهتاف. أن يصنع من كل جملة طريقًا، ولو ضيّقًا، إلى الفهم.
في النهاية، يبقى صنع الله إبراهيم هو ذاك العابر الذي لم يُسلّم نفسه للضوء، بل سار في الممرات الرمادية للكلمات. كتب بيدٍ مرتجفة، لا لأنها خائفة، بل لأنها تُدرك وهن الحقيقة. وكأن كل نصٍ له يقول: لا أعدكم بالخلاص، لكنني أعدكم بأن أروي، كما يروي الناجون، لا ليخلّدوا، بل لئلا تُنسى الحكاية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق