انتهى التصويت، وأسدل الستار على واحدة من أكثر المعارك الانتخابية حيوية في تاريخ نقابة الصحفيين، ولكن في الحقيقة، ما زال الفصل الأهم لم يُكتب بعد. فبينما كانت عيون البعض شاخصة إلى النتائج، كانت أعين أخرى ترنو نحو المرحلة التالية، حيث تبدأ معركة لا تقل أهمية عن التصويت: معركة تثبيت حقوق الزملاء، وتحسين أوضاعهم، وتأمين بيئة مهنية مستقرة وآمنة، ومواكبة التطور المهني والتقني الذي بات شرطًا لا رفاهية.
إن ما بعد الانتخابات هو اختبار حقيقي لمدى نضج الوعي النقابي لدى الجماعة الصحفية. فما حدث أمام صناديق الاقتراع لم يكن مجرد تصويت لأشخاص، بل كان فعلًا جماعيًا عبّر عن رغبة في تجديد الأمل، والبحث عن حلول واقعية لمشكلات تراكمت عبر سنوات.. اليوم، بات لزامًا على الجميع، فائزين ومن لم يحالفهم الحظ، أن يتحلوا بروح المسؤولية، وأن يتجاوزوا الحسابات الضيقة، من أجل الهدف الأوسع: استعادة مكانة المهنة، وصون كرامة الصحفيين.
المهنة تمر بمرحلة حرجة، يطغى عليها التحدي الاقتصادي، والانكماش المهني، والتغير التكنولوجي المتسارع. الصحافة الورقية، التي كانت لعقود المنبر الأبرز لصوت المجتمع، تعاني من تراجع كبير في التوزيع والإعلانات والدعم، في ظل طغيان الصحافة الرقمية، وانتشار المحتوى السريع والمتدفق عبر المنصات الجديدة.
لكن التحديات لا تقف عند حدود التطور التكنولوجي، بل تمتد إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها كثير من الصحفيين، خاصة في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، حيث تتراجع الرواتب، وتغيب مظلات الحماية الاجتماعية. ولا يمكن الحديث عن مستقبل للمهنة دون معالجة حقيقية لهذه الأزمات.
النقابة، باعتبارها الكيان الجامع، مطالبة بأن تتخذ موقعها في خط الدفاع الأول، لا بوصفها جهازًا إداريًا، بل بوصفها كيانًا يعبر عن آمال الصحفيين وآلامهم، يدافع عن مصالحهم، ويضمن لهم الحد الأدنى من الأمان المهني والمعيشي، ويمنحهم أدوات الاستمرار والتطور.
البيئة المهنية الآمنة ليست مجرد مطلب رفاهي، بل هي شرط من شروط الاستقرار المهني والنفسي. يجب أن يشعر الصحفي، في أي مكان يعمل فيه، أن هناك من يدعمه، ويسانده، ويدافع عن حقوقه في مواجهة أي تهديدات تمسّ مكانته أو كرامته. كما أن المساواة في الفرص بين الصحفيين، وعدم التفرقة بينهم، أمر لا يمكن التهاون فيه، إذا كنا جادين في بناء نقابة قوية تحتضن الجميع.
هذه البيئة تبدأ بتحسين الأجور، وتوفير غطاء تأميني شامل، وتحديث اللوائح التي تنظم العمل النقابي، بما يتماشى مع واقع العصر، وبما يضمن التكافؤ بين الجهد المبذول والعائد المحقق.
ولا يمكن الحديث عن مستقبل الصحافة دون أن تكون الأجيال الجديدة جزءًا أصيلًا من المعادلة. هؤلاء الصحفيون الشباب الذين يدخلون المجال بحماسة وطموح كبيرين، يصطدمون سريعًا بواقع مهني لا يرحب دائمًا، وبإجراءات قيد تبدو أحيانًا معقدة أو غير عادلة.
هنا يأتي دور النقابة في إعادة تقييم آليات القيد، وتطوير برامج تدريبية حقيقية، توفر لهؤلاء الشباب المهارات المطلوبة في سوق العمل، خاصة في ظل الانتقال الكبير إلى الوسائط الرقمية، وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وإنتاج المحتوى المتنوع. كما أن تبني أفكارهم الجديدة، والاستماع لمقترحاتهم، هو أحد سبل تجديد دماء المهنة، وضمان استمرارها.
صحيح أن العالم يتجه نحو الرقمنة، ولكن لا تزال للصحافة الورقية خصوصيتها، وقدرتها على التأثير، وعمقها المهني. الصحف ليست فقط أوراقًا مطبوعة، بل هي مؤسسات لها تاريخ وذاكرة ومكانة. الحفاظ عليها واجب، ليس فقط لحماية العاملين بها، ولكن للحفاظ على التعددية في وسائل التعبير، والتوازن في المحتوى، ووجود منابر تتيح التحليل والتعمق، لا فقط الخبر العابر.
توفير الدعم الفني، وتقديم حلول مالية ذكية، وتطوير المحتوى المطبوع ليتكامل مع المنصات الرقمية، كلها خطوات يجب أن تكون ضمن أولويات العمل النقابي خلال المرحلة المقبلة.
ومن الظلم تحميل مجلس النقابة وحده مسؤولية تحسين الواقع المهني، فالمعادلة لا تكتمل إلا بمشاركة حقيقية من كل عضو في الجماعة الصحفية. المطلوب هو أن تستمر الروح التي ظهرت في مشهد الانتخابات: روح التكاتف، الحوار، الانخراط في النقاش العام، وتقديم المبادرات، لا الاكتفاء بالمراقبة والانتقاد من الخارج.
النقابة القوية هي التي يشارك أعضاؤها في صنع قراراتها، ويحرصون على إنجاح مشروعاتها، ويتصدون للمشكلات المهنية بشكل جماعي ومنظم. هذه هي القوة الحقيقية التي تحصن النقابة، وتمنحها شرعيتها وتأثيرها في المشهد الإعلامي العام.
اليوم، نقف أمام مرحلة جديدة تمامًا. مرحلة عنوانها: العمل الجاد لا الشعارات، الإنجاز لا الوعود. المسؤولية الآن مشتركة، والخطاب يجب أن يتغير من النقد إلى البناء، ومن الشكوى إلى الحل.
الفرصة قائمة لبناء نقابة نموذجية، تجمع بين إرث الماضي ورؤية المستقبل، تستند إلى تاريخ مهني طويل، لكنها لا تدير ظهرها للتطورات العاصفة التي يشهدها الإعلام في العالم. فقط عندما نملك هذا التوازن، يمكن أن نضمن بقاء المهنة واستمرار تأثيرها.
الصحفيون، أفرادًا ومؤسسات، مطالبون الآن بأن يثبتوا أن مشاركتهم لم تكن لحظة عابرة، بل بداية لعهد جديد من التفاعل الواعي مع قضايا المهنة. وفي النهاية، لا أحد يستطيع أن ينقذ المهنة من أزماتها إلا أبناؤها.
0 تعليق